حنين الأمس

TT

مما لاحظته من ردود الفعل على مقالاتي في هذه الزاوية، تعلق القراء بما دار فيها عن الماضي، كسلسلة «أيام فاتت» و«أيام الخير». إنها ظاهرة تذكرنا بهذه الموجة من الحنين الى الماضي في كل شيء والقرف من هذا الحاضر الذي نعيشه. إنها جزء من روح السلفية التي تريد إرجاعنا الى قرون خلت وانقرضت. العجيب والمؤسف ان بعض العراقيين والكثير من العرب اخذوا يشعرون بالحنين الى أيام صدام حسين ضمن هذه النزعة الى الخلف. يقولون ان صدام حسين كان يبطش بكل من عارضه، ولكن من وقف جانبا ولم يشكل خطرا على نظامه فإنه يستطيع ان يعيش بكل أمان على نفسه أو ماله. لم يذق الناس هذا الذعر والإرهاق والإرهاب الشخصي الذي أصبحوا يواجهونه اليوم ويضطر الكثير منهم الى هجرة الوطن.

سألني احد الانجليز أخيرا عن التحسن الأمني الجاري الآن. قلت له هذا صحيح والأرقام الإحصائية عن الحوادث تؤيد ذلك. وتذكرنا بحكاية العالم الإحصائي الذي غرق في النهر بعد أن قرأ في الكتاب أن معدل عمق ذلك النهر كان 80 سنتيمترا فحاول عبوره. قلت لصاحبي كل شيء آخذ في التطور الآن في العراق. ولكنه يذكرني بحكاية المسيو ميسوف الذي كان سفيرا لفرنسا في اليابان. سأله الصحافيون بعد عودته الى باريس عن التقدم والتطور الجاري في المجتمع الياباني. قال، لا شك في ذلك. إن الناس تطوروا كثيرا عما عرفناه عنهم. كان المواطن الياباني عندما يفكر بالانتحار يعمد الى طريقة الهاريكاري بأن يأخذ الخنجر و يشق بطنه. أما اليوم فإنه يعمد الى قطع رأسه بالمنشار.

هذا هو النوع الأصيل من التطور الجاري في العراق. ففي عهد صدام حسين عمدت الفتيات العراقيات الى لبس المنيجوب والكشف عن سيقانهن. امتعض المحافظون من ذلك واقنعوا الفريق مهدي عماش بمنع ذلك. فأوعز للشرطة بردع الفتيات عن هذه الموضة بصبغ أرجلهن بالبويا حيثما رأوهن في الشارع بحيث تضطر البنت للرجوع الى بيتها لتقضي النهار في تنظيف رجليها من البويا أو تنظيف البويا عن رجليها. أثار ذلك مشاعر مهدي الجواهري وكان في شيكوسلوفاكيا فبعث بقصيدة تدافع عن حق الفتاة بالخروج من بيتها بالمنيجوب. قال يخاطب الوزير المسؤول:

نبئت أنك توسع الأزياء عتا واعتسافا

تقفو خطى المتأنقات كسالك الأثر اقتيافا

وتقيس «بالأفتار» أردية بحجة أن تنافى

أترى العفاف مقاس أقمشة؟ ظلمت إذن عفافا!

هو في الضمائر لا تخاط ولا تقص، ولا تكافى

كان للقصيدة اثرها فتوقفت السلطات عن التعرض للمتأنقات بالمنيجوب. جرى ذلك قبل ثلاثين عاما. ولكنهم اليوم لا يمسكون بلابسة المنيجوب فقط، بل تراهم، ولا سيما في مدينة البصرة، يمسكون حتى بالسافرة وبأي امرأة لا تلبس العباءة والحجاب والبرقع، حتى إذا لم تكن مسلمة، فيخطفونها ويغتصبونها ثم يذبحونها. قلت لصاحبي الانجليزي، هكذا يا سيدي ترى أن العراق آخذ بالتطور الى الوراء.