هذه المقاومة مشروعة لكن أساليبها غير مجدية

TT

نشرت «نيويورك تايمس» كبرى الصحف السياسية الأميركية تحقيقا مصورا عن الصبي الإسرائيلي الذي أصيب بصدمة نفسية، بعدما سقط صاروخ «قسام» على بيت الجيران في مستوطنة سديروت الملاصقة لقطاع غزة. التحقيق صورة للانحياز الإعلامي الفاضح لإسرائيل. لا شيء عن المذابح الإسرائيلية في غزة. كأنما الصبية والفلسطينيون الذين يقتلون هناك، صُنعوا من تنك «القسام».

لا تكفي إدانة العُهْرِ الإعلامي. عُرْيُ غزة عن كل وسائل الدفاع أمام العدوان الوحشي المتمادي أحرى بالسؤال أيضاً عن جدِّية المقاومة. هل هي مقاومة مجدية أم غير مجدية؟ استفتاءات الرأي تشير إلى أن أكثر من ثلثي الفلسطينيين غير راضين عن هذه المقاومة. هم يفضلون تجربة التسوية التفاوضية. إذا كان أهل الضفة وغزة لا يجرؤون على الكلام، فلماذا لا يتكلم العرب؟! لماذا لا يصارحون التنظيمات الجهادية بالحقيقة المؤلمة؟

النظام العربي يستسهل توبيخ إسرائيل على نقد المقاومة. الرأي العام العربي مخطوف ومعتقل. باتت ثقافة العجز واليأس مفروضة على أمة في صحافتها وتلفزيونها وتعليقاتها، في أدبها وفكرها. ما من عربي في ساعة الحزن يجرؤ على الاعتراض والنقد. إذا تجرأ وقال انطلقت فورا صيحات التخوين والتكفير والاتهامات بالعمالة لأميركا وإسرائيل، من أفواه وأشداق... العاجزين أنفسهم.

هناك تمجيد مبالغ فيه لمقاومة تعاني من قصور ميداني واضح. هناك محاولات عربية وأعجمية للتقليل من شأن المفاوضات. ماذا يضير العرب أن يجربوا؟ إن نجحت التسوية فهي مكسب لهم. إن أخفقت لن يخسروا شيئاً. كل حروب الاستقلال انتهت بالتفاوض مع الاحتلال والاستعمار.

حماس والجهاد تداويان العجز بمزيد من العجز. نطلق صاروخ التنك. يذهب على غير هدى. ترد إسرائيل بالطائرة والدبابة والمدفع والصاروخ. تقتل. تجرح. تفتك بالمدنيين والمقاومين. إسرائيل تمارس في غزة استراتيجية «وخز الإبر». هجمات برية خاطفة. ثم انسحاب سريع بعد إنزال أكبر قدر مستطاع من الخسائر، في مقابل خسائر لا تذكر. لا حاجة إلى الآن لاقتحام كامل القطاع. لا حاجة لتكبد خسائر كبيرة لا يطيقها الجيش والمجتمع، طالما أن «قسام» غير قادر على إنزال مثل هذه الخسائر بالمستوطنات.

لماذا لا تمارس «حماس» نقد الذات والتجربة؟ لماذا لا تراجع استراتيجية المقاومة سياسيا وعسكريا؟

لأن «حماس» هي أيضاً ضحية أخطائها الكارثية. هي أيضاً رهينة ثقافة اليأس. مدمنة للعجز. هادنت إسرائيل في السبعينات. تركت شارون يصفي نضالية «فتح» في غزة آنذاك. في المزايدة على أوسلو، روّعت حماس الإسرائيليين بعملياتها الانتحارية في التسعينات. كانت النتيجة كارثية: إيصال اليمين الاسرائيلي الاستئصالي والتوسعي إلى الحكم في إسرائيل. التوسع النهم في الاستيطان. بناء الجدار بحجة الأمن. أصبح الجدار وليس خط 1967 هو خط الحدود الجديد.

تدخل إيران على الخط. لتغطية فشل رجال الدين في الحكم، وفي إنتاج جيل ملتزم بالدولة الدينية، فقد استأنفت إيران تصدير الثورة إلى من؟... إلى العرب المشبعين بثقافة المقاومة «الجهادية». شقّت إيران التضامن العربي. انتزعت سورية السنية والشيعة اللبنانية و«الجهاد» و«حماس». قررت محاربة إسرائيل إلى آخر فلسطيني وشيعي، فيما تسكت عن اضطهاد عملائها الذين وصلوا إلى الحكم في العراق للفلسطينيين اللاجئين هناك!

في ذروة المحاولة العربية لتحقيق التسوية في لبنان، تحاول إيران تبديد أجواء التفاؤل بإشاعة مزيد من التوتر في لبنان، وشحن سماء المنطقة بالتهديدات العنترية. يخرج حسن حزب الله إلى العلن مُحَمَّلا بأرطال الشحوم والدهون التي راكمها على جسمه في مخبئه، ليهدد إسرائيل بزلزال يهز المنطقة. ثم يعلن أن لديه أياديَ وأرجل ورؤوساً هي أشلاء جنود إسرائيليين. يصفق جمهور عاشوراء. لا أحد يستطيع ان يواجه «حانوتي» الحزب بالسؤال: هل كان «النصر الإلهي» في خطف جنديين إسرائيليين يستحق التضحية بأرواح 1200 شيعي لبناني تبعثروا أشلاء تحت الأنقاض، من اجل استعادة ثلاثة أسرى لبنانيين لدى إسرائيل؟

عجز «حماس» عن ممارسة النقد الذاتي للمقاومة المسلحة وللتجربة السياسية في غزة، يكشف حقيقة المشروع الإخواني في العالم العربي. لم يتمكن شيوخ الإخوان العجائز من مصالحة «إسلامهم» مع الديمقراطية. لم يستطيعوا الارتقاء بالتجربة والمشروع إلى مستوى حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي الحاكم في تركيا.

غزة مثال صارخ على ديمقراطية إخوانية لا تستطيع التعايش مع حرية التنظيمات السياسية. كان الاقتتال. ثم الانقلاب. ثم الانفصال. أصبح التنظيم الإخواني أغلى من الوحدة الوطنية، ومتقدما على المقاومة المشتركة للاحتلال. نعم، «فتح» في طور الانحسار والتفتت والفساد. لكن كان بالإمكان التوصل معها إلى تسوية في غزة: عودة السلطة الشرعية والوحدة الوطنية، في مقابل لَجْمِ «فتح» عن العبث بالأمن.

قصور الوعي الإخواني لمفهوم ومبدأ المقاومة المجدية، فَوَّتَ فرصة لا تعوض لتحويل غزة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، إلى لؤلؤة متوسطية مزدهرة. كان الخليجيون مستعدين للتمويل. كانت أوروبا وربما أميركا مستعدتين للضغط على إسرائيل لفك الحصار عن التجربة المثيرة.

أعترف بأن ممارسة النقد بالكلمة هي أضعف الإيمان. إنها شجاعة سلام فياض الميدانية هي التي تستحق التشجيع والإعجاب. هذا الرجل يقدم التنمية الاقتصادية ونزاهة الشفافية أسلوبا معاصرا جديدا في المقاومة. مجتمع راقٍ في وعيه وثقافته وازدهاره الاقتصادي وانضباطه الأمني، لا تجرؤ إسرائيل على قصفه، أو الاستمرار في الهيمنة عليه واحتلاله.

إسرائيل تخرب اليوم محاولات عباس وفياض، باجتياحها نابلس ومخيمات الضفة. إسرائيل لا تترك الفرصة لأمن السلطة لكي يغلق البؤر المتمردة وغير المنضبطة. أليس غريبا أن يلتقي «حماسيو» إسرائيل مع «الجهاديين» الفلسطينيين في رفض المفاوضات والدولة الفلسطينية. أفيغدور ليبرلمان المستقيل من حكومة أولمرت يلتقي مع محمود الزهار وأمثاله في «تخوين وتكفير» المفاوضات!

حماس، في قصور مقاومتها اللامجدية، تزايد على عباس في طرح فكرة «الهدنة الطويلة» مع إسرائيل. ألا تفرض هذه الهدنة الجلوس مع إسرائيل والتفاوض معها على التفاصيل؟ ألن تعفي الهدنة إسرائيل من الالتزام بالانسحاب ووقف الاستيطان؟ ألا تعني الهدنة فلسفيا قبول حماس الضمني بإسرائيل كيانا قائما، كيانا احتلاليا واستيطانيا أمام جهاديين «مهادنين» بلا كيان وبلا دولة وبلا مشروعية؟ هذه الشواهد وغيرها بحاجة الى من يشرحها الى رأي عام عربي مغسول الدماغ بمقاومة غوغائية في دعايتها.

من يقول للمجتمعات العربية إن المقاومة باتت حرفة لا رسالة. باتت مهنة وليست أداة للوصول إلى غرض نبيل: التحرر والحرية. من يقول «للمقاومين» إن المقاومة المجدية تفرض استراتيجية الكر والفر. الضرب والاختفاء. غزة لا تصلح لحرب التحرير. غزة جزيرة عارية مكشوفة. غزة كيان ثابت جاثم على الأرض. من السهل على قوة الاحتلال الإمساك بالمقاومين فيه. من السهل ملاحقتهم وضبطهم وقتلهم. من السهل اختراقهم بعملاء وجواسيس منهم وفيهم.

المقاومة حق مشروع وطني وقومي وديني. لكن المقاومة يجب أن تملك فكر التخطيط ووسائل وأدوات مجدية، بحيث لا يشعر مجتمعها بأنه يدفع ثمنا أغلى من عبء تحملها المرهق له. إذا كان مستحيلا القضاء الفوري على إسرائيل في مرحلة العجز واليأس، فلا بد من تغيير أسلوب المقاومة، لمجاراة المجتمع الاسرائيلي في تطوره الاقتصادي والتقني ورفاهيته النسبية. أسقط العرب حلم إسرائيل الكبرى. ستكتشف إسرائيل مع الوقت استحالة البقاء والعيش في «غيتو» محاصر ببحر متلاطم من البشر. سوف يذوب الكيان الغريب يوما في هذا البحر. سيذوب في عبقرية المكان والزمان. إما أن يتعايش ويندمج. وإما أن يغيب ويرحل.