عصر الطوائف

TT

هذه الأيام، يقيم المسلمون الشيعة تجمعات ومسيرات وخطبا ومجالس عزاء، تذكرا لمعركة كربلاء التي قتل فيها الحسين بن علي بن أبي طالب، وابن فاطمة الزهراء.

التذكر الحزين للمعركة وقتلاها الكبار، وعلى رأسهم الحسين، ليس جديدا، بل هو سمة مميزة للطائفة الشيعية من المسلمين، لكن الجديد، كما لاحظ مثقفون شيعة تحدثت معهم، هو مستوى الزخم والتقاطع ما بين السياسي والطقوسي بهذه المناسبة.

أهمية معركة كربلاء، كما قال احد المستشرقين، تتجاوزه توصيفها العسكري والحدثي، و:«أهمية مذبحة كربلاء لا تقاس بمجرى الحدث: معركة صغيرة، بين فريقين دامت يوما واحدا، وأسفرت عن بضع عشرات من القتلى». لكن نفس هذه المعركة الصغيرة، تحولت، بسبب مأساوية قتل الحسين، ابن فاطمة وعلي وحفيد النبي، تحولت الى شيء قيمي وإلهامي كبير، وسيتخذ الحسين بعدها:«رمزا ويصبح شعارا في الإسلام، قوامه الصراع من اجل الخير والحق والاستشهاد الضروري لكل مقاتل من اجل العدالة». كما تلقى الوعي الشيعي تلك المأساة، ومعه وعي كثير من المسلمين السنة الثائرين على الاستبداد أيضا، في هذا المستوى فقط من الدلالة الإلهامية استقرت صورة كربلاء فوق السياج الطائفي، لكن الأمر تطور أكثر حينما تطيف، «وهكذا ولدت لدى الشيعة، لمدى أجيال، العلاقة بين الاستشهاد والحقيقة، وبين الألم والعدالة». ( فرانسوا تويال، الشيعة في العالم. ص 36). ولمن يريد تذكر تاريخ المعركة/ المأساة، فهي وقائع جرت في يوم دام وقع قبل أكثر من ألف وثلاثمائة سنة، لأنه في العاشر من محرم سنة61 للهجرة ، تواجهت السرية الأموية مع الحسين الثائر على السلطة الأموية ومعه ثلة من أهل بيته وأنصاره، في الأرض التي سميت لاحقا بكربلاء، وأقيم فيها ضريح الحسين، وتشهد هذه الأيام المسيرات الحاشدة والخطب الساخنة واللطم والبكاء على الشهداء، ولعن من قتلهم، في غابر الزمان.

هذا الحدث الدموي شكل فارقا في تاريخ المسلمين، وعلى سخونة الدم، وحرارة الألم، بذرت أولى البذور للاتجاه الشيعي في الإسلام، والذي تفرعت عنه لاحقا اتجاهات شيعية أخرى، وبفعل الصراع الذي كان قبل ذلك بين هاشم وأمية، ثم بين فقه الجماعة وفقه السلطة من طرف، وفقه المعارضة والحركات السرية من طرف، تكون الحوض الكبير للفرق الإسلامية، ومع مرور الزمن وتعاقب السلطات السياسية، والاقتراض الدائم ـ والمتبادل ـ ما بين السياسي والديني تم إحداث الكثير من الإضافات والتعديلات على صور وأفكار وبنية المذاهب، فحركات المعارضة ضد السلطة الأموية، ثم العباسية، عبرت عن نفسها، فكريا وثقافيا، بمقولات حول القدر والجبر والاختيار وصفات الله والإمامة السياسية... الخ قضايا الفرق كما دونها مؤرخو الفرق والطوائف في الإسلام، وتتطور هذا الجدل الكلامي واللاهوتي، لتتحول قضاياه الى مسائل كلامية وفقهية تقوم بذاتها.

بكل حال، هذا كلام يطول، وليس صالحا في مثل هذه المساحات الصحفية، غير أن الإشارة إليه تأتي للتنبيه الى الدافع السياسي الكبير، في البداية، خلف نشأة الفرق والاتجاهات السياسية ـ كل الفرق ـ بما فيها «الفرقة الناجية». فحينما بالغ الشيعة في تصوير وتجذير ومركزة هذا الحدث التاريخي، وهو معركة كربلاء، فمن اجل إيجاد «سفر تكوين» خاص، يعزل الذاكرة الخاصة بالطائفة، وتصورها للتاريخ وحركته ونهايته، وحينما بالغ السنة في تصوير مقتل عثمان، أو دور ابن سبأ «الدخيل اليهودي» في المعسكر العراقي، العلوي، فمن اجل تأكيد النقاء الداخلي والقراءة المعتمدة للإسلام.

الاشتباك الديني السياسي، بدأ منذ لحظات مبكرة جدا في تاريخ المسلمين، وحتى أسماء الفرق والطوائف كما اصطلحنا عليها لاحقا، تحمل في طياتها الروح السياسية والخلاف القديم على السلطة وشروطها، من اسم «الإمامية» لدى الشيعة، الى مصطلح «الجماعة» لدى السنة.

البحث في تفاصيل النشأة وأسبابها والتفتيش عن جذورها الحقيقية، وإضافاتها اللاحقة، بحث شائك وملغم، ومغضب للطرفين، أهل الإمامة وأهل الجماعة، لأنه ـ ببساطة ـ يرفع عن الاثنين هالة الاستثناء عن الزمان والمكان، ويضعهما ضمن شرط التاريخ الإنساني وحركته وسقفه.

الحق، لم أكن انوي الإطالة في هذا الحديث الشائك، إلا أن شيئا من المرور العابر على تلك اللحظات الدرامية والخطيرة من تاريخ المسلمين كان لا بد منه. وهنا أنتقل إلى الصورة الحالية، فما يجري الآن من استثمار وصراع بين «الشيعية السياسية» وخصمها «السنية السياسية» يحلينا إلى المعارك التي جرت في صحاري العراق وضفافه قبل ألف وثلاثمائة سنة، بين من يريد الإمامة ومن يريد الجماعة.

ألا يبعث هذا على الدهشة؟ ألا يثير الأسئلة الساخنة؟ لماذا تجديد صراعات التاريخ وتزخيمها؟ ومن هو المستفيد من هيجان المشاعر الدينية المسيسة؟

حينما يتقابل السني مع الشيعي، ويتقاتلان على من هو الأفضل: إمامي أم إمامك؟ وما هو الأصوب: تاريخي أم تاريخك؟ ومن الذي سيصلح الزمان: غائبي أم غائبك؟ يتقابلان ليس في مجلس نقاش علمي، أو حتى دردشة اجتماعية بريئة، بل عبر خنادق الحرب وفوهات الرشاشات أو حتى عبر خطب التخوين والهجاء المتبادل. فهل يعني هذا أننا من أبناء الحاضر أم الماضي؟ نحن تجاوزنا صراعات الأسلاف وواجهنا مشكلاتنا الحقيقية؟

لا ادري.. ولكن حتما هناك استغلال واستثمار واضح، ومتجدد، لهذه المشكلات التاريخية السياسية التي تلبست بالدين، من قبل المتصارعين في كل وقت، وما ملحمة الصراع الصفوي ـ العثماني، وهو صراع امبراطوريات، إلا دليل ساطع على هذا التوظيف المسرف للفروقات الطائفية والمذهبية في «مدفعية السياسة»، وقبله الصراع العباسي ـ الفاطمي، والآن، الصراع الشرس بين شيعية سياسية هائجة، وقبالتها سنية متحفزة، والكل يضرب بمدفعية الخلاف الطائفي القديم.

جولة واحدة على بعض المواقع والمنتديات الانترنتية للمتحمسين من أبناء الطائفتين تكفي لتجد قصائد الهجاء والتكفير المتبادل، فهذا «ناصبي»، وهذا «رافضي»، حتى في القضايا المعاصرة التي هي بطبيعتها قضايا إشكالية، يتم استحضار التاريخ السحيق، وكلنا يتذكر كلمة أبرز رمز سياسي للشيعية السياسية في العراق، ولا أريد تسميته، حينما وصف خصومه من القوى السنية الرافضين للمشروع السياسي بـ«الأمويين الجدد»، ليصف هؤلاء، خصومهم من الأحزاب الشيعية بـ«الصفويين الجدد».

إننا نعيش هيجانا طائفيا خطيرا، كان كامنا في تراث الفريقين، ولكنه الآن مندفع ومدفوع بمصالح الساسة، ولو تحارب السنة والشيعة مائة عام فلن يعيدوا كتابة التاريخ من جديد، ولن تزول هذه الآيديولوجيات الصراعية لعدة أسباب تتصل بالفكري والديني والمعطيات السياسية الجديدة، هنا أشير الى ذكر فرانسو تويال في كتابه عن الانبعاث الشيعي أنه يجب التشديد:«على أن أي آيديولوجية لا تموت بسهولة، عندما تستند إلى سلطة دولة». ومن هنا، إلى أجل غير مسمى، فقدر هذه المنطقة ومثقفيها ومفكريها وإعلامها، ومعهم المجتمع الدولي كله، هو الانشغال بهذه المواجهة «السياسية» بين السنة والشيعة طيلة سنوات مقبلة. لأسباب لا علاقة لها، حاليا، بالتاريخ أو بمعارك صفين وكربلاء.

هذا الانشغال حتمي على الجميع كما يشير تويال الذي ينقل ما قاله وزير الدفاع والداخلية الفرنسي السابق جان بيار شوفنمان في كتابه «الأخضر والأسود» من أن مركز الثقل في العالم العربي قد انتقل من محيط البحر الأبيض المتوسط الى الخليج في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، وإذا شئنا الإمعان في الاستقراء لقلنا إن مركز الثقل في هذا العالم قد انتقل من المناطق السنية الى المناطق المختلطة، شيعيا وسنيا. وهذه ملاحظة صحيحة، آخذين بالاعتبار أن هذه المناطق المختلطة من العراق إلى ضفاف الخليج الغربية والشرقية، هي مناطق الثروة والبترول والسياسة والنووي، والهيجان الطائفي.

المشهد، طائفيا، مزعج ومقلق، ومن هنا يصبح العتب، إن لم نقل الإدانة، في مستوى الخطورة، فكيف يمارس خطباء عاشوراء من قيادات الصف السياسي الأول في العراق ولبنان، ومعهم خطباء الجوامع وكتاب المقالات من «الجماعة» دورهم في هذا المشهد الساخن؟ هل هم من موقدي النار أم من مطفئيها؟

سؤال يتوقف على إجابته مصيرهم في محكمة الضمير الإنساني، ودروهم في تحديد مستقبل الإنسان والتسامح في هذا الجزء من العالم.

[email protected]