التقارب التركي ـ المصري.. لصالح من؟

TT

رغم البعد الجغرافي القائم بين تركيا ومصر فان ما قد يجمعهما من مشتركات لا يقل قيمة عن الحجج التي يسوقها بعض المتشددين في البلدين لاستخدامها كأدوات تفرقة تذرع بها لسنوات لتكون مركز الثقل في اختلاق عوائق تاريخية ودينية وعرقية عززت مواقع ومواقف أطراف كثيرة أمسكت طويلا بهذه الورقة وما زالت تلوح بها.

لكل من تركيا ومصر حتما دوائرهما ومصالحهما وحساباتهما التي قد تكون متباعدة، لكنها لم تعد تتضارب كما كانت الحال عليه إبان حقبة الحرب الباردة مثلا. قرار الرئيس التركي عبد الله غل أن تكون مصر أول دولة عربية يزورها، يأتي ضمن هذا التوجه الذي يحمل أكثر من قيمة تاريخية وسياسية واقتصادية .

غل جلس يتذكر في لقائه بالرئيس المصري الدور الذي لعبته القاهرة والكثير من الدول العربية عام 1989 في منع المواجهة التركية ـ السورية العسكرية والنجاح في إخراج عبد الله أوجلان وكوادره من دمشق، وكيف تحركت مصر أكثر من مرة للحؤول دون وقوع ازمة عربية ـ تركية بسبب الخلافات على تقاسم واستخدام مياه نهري دجلة والفرات ليخرجا كما أظهرت نتائج اللقاء بقرار التنسيق الأمني الإنمائي الإقليمي المفتوح:

وشرح غل مطولا للمصريين رؤية بلاده في موضوع التنقيب عن النفط في شرق المتوسط ومخاطر الحملة القبرصية اليونانية بهذا الاتجاه التي ستتسبب بالمزيد من التوتر والتصعيد لا تحتاج اليهما المنطقة هذه الأيام.

كما طالب غل بإرجاء طرح موضوع اتفاقية شرق حوض المتوسط التي تدعو اليها فرنسا الى مرحلة لاحقة، فهي قد تتحول هنا الى ورقة مساومة وضغط بيد باريس في موضوع عضوية تركيا الأوروبية.

مبارك وغل خرجا على ما يبدو باتفاق حول التنسيق الكامل في التعامل مع اكثر من قضية ثنائية وإقليمية يتقدمها الموضوع اللبناني والمستجدات في العراق ومسار النزاع العربي ـ الاسرائيلي على ضوء زيارة الرئيس التركي الى واشنطن قبل أسابيع ولقاء الرئيس المصري ببوش في القاهرة قبل ايام.

فهما رغم تحذيراتهما من مخاطر شن حرب أميركية ـ إسرائيلية ضد ايران ستنعكس سلبا على جميع دول المنطقة، دعيا في الوقت نفسه ضمن توجه مشترك على طريق تعزيز التنسيق والتعاون الإقليمي الى بناء شرق أوسط خال من اسلحة الدمار الشامل وإزالة حالة الشحن والتوتر التي تعيشها المنطقة.

التنسيق التركي ـ المصري دخل على ما يبدو عصرا جديدا ظل مهملا لسنوات طويلة فحجم التبادل التجاري القائم اليوم (1.5 مليار دولار) بالمقارنة مع موقعهما وقوتهما البشرية وقدراتهما، لا يعجب القيادتين اللتين اطلقتا في السنوات الاخيرة حملة استثمار واسعة بدأت مع مشروع توسيع مطار القاهرة الدولي ووضع حجر الأساس للمنطقة الصناعية الحرة قي ضواحي القاهرة الذي سيساهم في خلق 25 ألف فرصة عمل لمواطنين من البلدين. غل اصطحب معه أكثر من 170 رجل أعمال تركي جاءوا يضعون أيديهم بأيدي النخبة من التجار والصناعيين المصريين ضمن خطة شاملة تهدف لرفع التبادل التجاري الى 5 مليارات دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة.

قد تواجهنا بعض الصعوبات في تحديد المستفيد الأول من التقارب التركي ـ المصري لكننا نستطيع بسهولة كبيرة ان نحصي القوى التي ستعتبر نفسها متضررة من نتائج هذا الانفتاح تمركز بعضها على تخوم القارة الأفريقية في كينيا وإثيوبيا في محاولة لعزل مصر ومحاصرتها والضغط عليها استراتيجيا ومائيا، والبعض الأخر أمام بوابة تركيا الاوروبية يصر على إغلاقها والحؤول دون عبور الأتراك ثقافيا واقتصاديا واستراتيجيا عبر محاولة فرض هيمنته على حوض البحر الأسود ضمن لعبة توازنات جديدة. قيادات العدالة والتنمية ترى ان علاقات تركيا الجيدة بالدول العربية تسهل لها أكثر فأكثر الطريق الى الاتحاد الأوروبي لكن ما لا يعرفه الكثير من الأتراك ان طريق الاتحاد تمر أولا عبر الكثير من العواصم العربية والإسلامية قبل ان تمر عبر واشنطن وغيرها. بصورة أوضح حوار الحضارات والمدنيات يبدأ من المنطقة وبين شعوبها وقياداتها أولا، ولا فرص نجاح لأي حوار مماثل لا يتعامل بجدية مع هذه المعادلة. ما سمعه الرئيس الفرنسي ساركوزي من القيادات العربية مؤخرا حول الدور والموقع التركي الإقليمي سيدفعه حتما الى مراجعة مواقفه وحساباته خصوصا في منطقة شرق المتوسط التي توليها فرنسا اهمية استراتيجية بالغة في مواجهتها المفتوحة مع أميركا لا يقل قيمة وأهمية عن الحوار التركي ـ الإسباني الذي نسمع ونقرأ الكثير حوله هذه الأيام.

قناعة الكثير من المؤرخين هي إن مرحلة ما بعد سقوط الامبراطورية العثمانية كانت الأكثر تأثيرا في تدهور وتراجع العلاقات التركية – المصرية، وقناعتنا اليوم هي ان مرحلة ما بعد اشعال الحرب في العراق وإطلاق مشروع الشرق الأوسط الكبير، ستعطي الفرصة للبلدين لتحسين علاقاتهما على طريق تحمل مسؤولية وضع حجر الأساس لتعاون إقليمي سياسي اقتصادي امني يكون البديل والرد الأنسب على مشروع الشرق الأوسط الكبير الأميركي حيث بإمكانهما التنسيق الفوري مع السعودية والأردن، نظرا لتلاقي السياسات وتوسيع رقعة التعاون في المراحل المقبلة لتضم الراغبين في توفير الأمن والاستقرار وإبعاد شبح الحرب والتجزئة عن المنطقة.

* أكاديمي وكاتب تركي