تقرير من القاهرة: عودة الأستاذ!

TT

مع كل التقدير للعواصم والحواضر العربية الأخرى، فإن القاهرة تظل ليس أكثرها صخبا فقط، بل أغناها من حيث التيارات السياسية والفكرية التي تتفجر كل يوم، وأحيانا كل ساعة. وربما ليس صدفة أن مكاتب القاهرة في الصحف العربية الكبرى، والمحطات التلفزيونية الفضائية، تأتي من حيث الحجم والمتابعة بعد المكاتب الرئيسية للصحيفة والشبكة الأم. وهؤلاء جميعا لا يجدون مشكلة في البحث عن قصة صحفية مثيرة تقع دوما بين طرفي الحب والكراهية، واقتصاد السوق واقتصاد الدولة، ومعالم الاستبداد والحرية، وعصور الفضاء وأيام ما قبل التاريخ، والتدين الصافي وآخر صيحات التحرر الغربي. وهكذا تناقضات تبقى الأعصاب مشدودة، والمشاهد متوترة، والانتظار مؤلم، والأشواق مفعمة وحارة.

ودائما في القاهرة هناك قصص كثيرة تتنافس على جذب الاهتمام، والحصول على مقدمة الأنباء، وتستحوذ بالحماس والنشوة والغضب على أحاديث المقاهي ومنتديات وصالونات الثقافة. وفي الأسبوع الماضي تنافس على «روح القاهرة» قصتان: واحدة خصت زيارة جورج بوش؛ والثانية كانت عودة الأستاذ محمد حسنين هيكل إلى قلب الساحة الفكرية والسياسية مرة أخرى بمجموعة من المقالات القديمة الجديدة!. وبينما جاء جورج بوش وذهب، وحصل على ما تحصل عليه الزيارات الأمريكية بنادر التقدير وكثير اللعنات؛ فإن مقالات هيكل على الأرجح سوف تعيش معنا لفترة قادمة.

وكما هو الحال في المناسبات الكبرى فإن قدرتها على التلألؤ وخطف الأبصار جزء من قيمتها الثمينة حتى وسط جحافل النور، فما بال الحال عندما تأتي في وسط ظلمات كثيرة ووحشة هائلة في الفكر العربي. ولكن الماس بين الأحجار الكريمة له وظيفتان: واحدة توضع في المتاحف التاريخية وبين المقتنيات الأثرية للملوك والأباطرة وملكات الجمال، وهو بهذا القدر يظل جزءا من التراث، ومزارا للانبهار والتقدير لقدرة الصانع وجمال الأثر. والثانية أنه بين الأحجار فإن الماس أصلبها وأكثرها قدرة على القطع وهو ما يجعلها طاقة صناعية هائلة لا تجعلها كريمة فقط وإنما نفيسة بحكم الاستخدام مضافا إلى حكم الندرة؛ لذلك كان الاستخدام في مركبات الفضاء والصناعات الدقيقة التي تنقل الناس بين الكواكب والعصور القادمة.

الأستاذ هيكل وهو في العمر السادس والثمانين ينتمي باقتدار إلى النوع الأول، فلمع وخطف الأبصار عندما أخرج من جعبته، وجعبته فيها الكثير، ستة مقالات كان قد كتبها بعد عام من تولي الرئيس مبارك للسلطة على شكل رسائل. وكما هي العادة في أصحاب القدرة والحنكة، فإن رجلنا لا يدخل المسرح صامتا وإنما بقدرة بالغة على جذب الأنظار والأبصار؛ فالنشر لم يحدث في أي من الصحف «الناصرية» مثل «الأسبوع» أو «العربي» أو «الكرامة» حيث يوجد من جعلهم هيكل عبر السنين دراويشا للناصرية وفي الحقيقة دراويشا لهيكل نفسه، وإنما جرى في صحيفة «المصرى اليوم» الخاصة والمستقلة. وكما هي العادة في المسرحيات والأدوار الكبرى فإن الدخول إلى المسرح لا تسبقه ضجة كبرى وغموض حول ما سيأتي، وإنما وعلى الطريقة «الهيكلية» لا بد من تقديم، والتقديم لا بد أن يكون طويلا، والطول لا بد ان يكون كالسكين القاطع في الرئيس الراحل أنور السادات!.

وهكذا فورا يظهر أن الماسة اللامعة هي من بقايا الماضي التي عرفتها القاهرة في متاحفها الكثيرة، وصفقت لها كثيرا في مسارحها الأكثر، خاصة عندما تعيد ما سبق حول الرئيس الذى سرب خطته الإستراتيجية للأعداء؛ وهو الذي لم يفعل، وخاض حربا، ومشى سلاما، واسترد أرضا. ومن الناحية التاريخية فقد ناقشت كلام الأستاذ فيما يتعلق برسالة الرئيس السادات إلى كيسنجر يوم السابع من أكتوبر بالتفصيل في مقال نشر بصحيفة «الأهرام» وجاء حكمي استنادا إلى رسالتي للدكتوراه عن حرب أكتوبر أن الأستاذ كان مخطئا ومتجنيا؛ ولكن المهم هنا في سياق هذا المقال كيف حمل الأستاذ التاريخ مرة أخرى إلى الحاضر، ولكنه لم يحمله على صاروخ أو مركبة فضائية إلى المستقبل.

لقد فعل الأستاذ هيكل ذلك بالشكل كما فعله بالمضمون، فالشكل دائما يأخذ تلك الحالة من المطولات الطويلة، فهو يحتاج صفحات مطولة لكي يقول للرئيس مبارك أنه يؤيده من أجل سجله في الخدمة العامة، ومن أجل حقيقة أنه ليس مدينا لأحد. ومع بداية عصر الرسائل الدقيقة SMS، فإن مقالات الأستاذ سوف تشكل صعوبة بالغة لأجيال جديدة باتت تعرف أن الأمور لا تحتاج كل هذا الاحتكار للوقت والمساحة. العجيب في الأمر أن الأستاذ لديه قدرة فائقة على الاختزال بقدر قدرته على الاستطراد والتفصيل حتى فيما استطرد وفصل فيه عشرات المرات من قبل، ولكن ماسات المتاحف العظمى لا تبالي أبدا بالوقت الذي تنتظره في مواجهة المشاهدين والمعجبين والحاسدين أيضا. والحقيقة أن صاحبنا بلغ الحكمة كلها حينما لخص عصر عبد الناصر بقوله انه استخدم السلطة بأكثر مما هو ضروري في الداخل؛ واستعمل القوة بأكثر مما هو مناسب في الخارج؛ وبقي أن يستخدم ذات الحكمة في تقدير وتقييم باقي العصور.

ولكن الحال ليس كذلك دائما لدى الأستاذ هيكل، والتاريخ لديه يتحول دائما إلى خيوط مؤامرات غامضة تحركها على الأغلب أجهزة مخابرات ورسائل جرت منذ عقود أو قرون. وهو بوسعه أن ينسب واقعة جرت في القرن الواحد والعشرين إلى تصريح جاء على لسان نابليون بونابرت في نهاية القرن الثامن عشر. وهو منبهر دائما بالوثائق والكلمات والعبارات والتصريحات متناسيا أن كل ذلك يتفاعل في وقته وزمنه مع أزمان وأوقات أخرى، وفي هذا وذاك مع بشر غلبت عليهم الحكمة أحيانا والحماقة أحيانا أكثر. وهنا عند هيكل يتجمد التاريخ عند ما هو مكتوب ومطبوع، وتصبح مهمة الكاتب غير المؤرخ، أن يربط الخيوط ويخلق منها مؤامرة غامضة إن لم تكن بالوقائع فهى بالرائحة!.

وعندما كان على الأستاذ هيكل أن يبحث في سر أسرار اختيار الرئيس مبارك نائبا للرئيس السادات فإنه أغرق عنصر الكفاءة والوطنية في رسالة أرسلتها أجهزة مخابرات إلى شاه إيران تخبره، أو تأمره، فيها بالاعتماد على سلاح الطيران باعتباره سلاحا قليل العدد وكبير القدرة النيرانية. ولما كان الشاه بات صديقا للرئيس السادات، فلابد أن الخبرة انتقلت، وهذا نقلها للرئيس مبارك، وفي كل الأحوال فإن ما يبدو تعبيرا عن الإرادة الوطنية يصبح فورا جزءا من عملية واسعة لها خيوط خارجية ممتدة حتى تصل إلى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. هنا لا يوجد تاريخ لبشر، ولا اختيارات لقادة، ولا حتى تطورات للتاريخ فندت خطة المخابرات قبل أن تبدأ عندما تم الإطاحة بالشاه ومن حوله كل سلاح طيرانه؛ بل وتم اغتيال السادات نفسه وسط جيشه كله لأن الراديكالية العربية كانت قد أخرجت من رحمها آخر مواليدها التعيسة ممثلة في الإرهاب «الإسلامي» الذي سلب رموزها ولكنه أخذ مضمونها باستخدام السلطة في الداخل أكثر مما هو ضروري وروحها البائسة في استخدام القوة في الخارج بأكثر مما هو مناسب!.

وربما باعتباري أكاديميا كان واجبا عليّ الاحتفال بذكر الوثائق والرسائل والسجلات، فالمهنة الخاصة بالتحليل السياسي والتاريخي تعطي كل ذلك احتراما بل وتسبغ عليه أحيانا أقدارا من القدسية. ولكن ذات الاعتبار في العلم الأكاديمي هو الذي يعلم الحذر والحرص في التعامل مع ذلك كله، فليس كل وثيقة معنى مطلقا، كما أن الأرقام لا تقف معلقة بين السماء والأرض، وفي الأحوال السياسية فإنها مرتبطة بعقول وقلوب بشر. وأظن أن الأستاذ هيكل يعلم كل ذلك، ولكن ماسات المتاحف وهي تختزن طاقتها في حرارتها ولمعانها وسطوعها على الخلق، تعتز دوما بآهات المعجبين بالتراث بأكثر مما هي مهتمة بالمشاركة في مهمة الصعود إلى السماء !!.