البعث.. ألا أنَّ الاعتذار شفاءٌ!

TT

بادئ ذي بدء، لا يبدو قانون «اجتثاث البعث»، الذي صادق عليه البرلمان العراقي مؤخراً، بعد تبديل الاسم إلى «المساءلة والعدالة»، منسجماً مع المصالحة بالعراق، وهي تأتي في مقدمة التحول من الديكتاتورية إلى الحريات العامة. وربما يستبعد نعت ما موجود حالياً بأنه نظام ديمقراطي، فالأخير يحتاج إلى عقل سياسي واجتماعي آخر. وعلى حد قولة زعيم إسلامي، يؤمن بوحدة العراق، ومحاربة الفساد: ان حكم الديمقراطية، بالنسبة إلى قواهم، هو حكم أكل الميتة! اضطراراً! وأجدها صراحة متناهية، قالها الرجل لما «فار التنور» وعمَّ الفساد، والهضم باسم الديمقراطية!

أفاد «قانون الاجتثاث»، قادة البعث العراقي بتحشيد عناصرهم بشعور الضحية ودفع مظالم. وبلا شك، استغل القانون استغلالاً فجاً للثأر والتشفي، وارتكبت فيه أخطاء جسيمة، بينما سلم قادة ورؤساء في الأمن والمخابرات، لأنهم أسرعوا وانتموا إلى الأحزاب القائمة. موظفة في إحدى الوزارات صرخت بوجه مسؤول: «طاردتني بالأمس لعدم انتمائي للبعث، واليوم تطاردني لعدم ارتداء الحجاب! فمَنْ أنت»؟! والأمثلة على ما شاع عن التوابين لا تعد ولا تُحصى! أما قادة البعث العراقي، من الذين توفرت لهم فرص الدعم الخارجي والتصرف بأموال اكتنزوها، فقد نسوا ما اقترفه حزبهم في جولتي سلطتهم (1963) و(1968)، ولم تسمع منهم مفردة: آسفين! لا على الأولى ولا الثانية. ونأتي بما سجلتهم دفاتر قادة أُصلاء لهم ودفاترهم. كتب أكرم حوراني عن أمين عام الحزب علي صالح السعدي، وكان الأخير يترد إليه عند تواجده ببغداد: «لقد أصبح إنساناً محطماً ما أن يستعرض ما مضى من أحداث ثورة الثامن من شباط في العراق، حتى ينفجر باكياً.. انه كثيراً ما يستيقظ في الليل فزعاً على صراخ المعذبين، ومَنْ أُغرق في نهر دجلة» (المذكرات، الجزء الرابع). وبالجملة خلال التسع أشهر قتلوا وهتكوا بفظاعة، وعادوا يسمون 8 شباط «عروسة الثورات»!

كان متشددون قوميون شركاء في تلك المقاتل، فبإصرار منهم تقدموا بتطبيق الشريعة بآلاف السجناء. وبعد حين، وتقدم بعمر مستحصل الفتاوى من رجال الدين، يصر على الممارسة نفسها لو قيَّض له العودة ثانية. أليس هو تشريعا للإرهاب والقتل الجماعي، أرى له شرف السبق على طالبان والقاعدة! أما إذا تناسى البعثيون تعاملهم مع دماء العراقيين مثل دماء براغيث! فنذكرهم بالقتل السياسي، بمَنْ نُفذ وفق المادة (200) من القانون (107): «يُعاقب بالإعدام: أ ـ كل مَنْ ينتمي إلى حزب البعث.. إذا أخفى عن عمد انتماءاته وارتباطاته الحزبية والسياسية السابقة. ب ـ كل مَنْ انتمى أو ينتمي إلى حزب البعث.. إذا ثبت أنه يرتبط اثناء التزامه الحزبي بأية جهة حزبية أو سياسية أخرى» (المنهاج الثقافي المركزي)، وقد لحق تلك القوانين المفرعة سلسلة قوانين. ولا يعني طرح ذلك في منهاج ثقافي سوى إشاعة الموت ثقافةً! ناهيك من تشريع إبادات الأحزاب والجماعات، والجلاء الجماعي من الأرض. هذا غيض من فيض تكشفه وثائق مخابراتهم، وتقارير مؤتمراتهم الحزبية! لكن، للحق نقول: إن التعالي على تقديم الاعتذار ليس خصلة بعثية حسب، وإن كان شأنهم مع الدماء شأناً آخر. بل من خصال العقل السياسي العراقي عامة أن يبدو الاعتذار خياراً صعباً. تلك ثقافة تقمصها حتى الأطفال عند خصامهم، فأخذ الطفل يشير إلى نده: «ما كو إصحاب (صلح) للتالي إلا يبوس إنعالي»! وأراها تتردد في أجواء دعوات المصالحة العراقية اليوم وبلغة الكبار!

لقد جرى الربط، ومنذ التأسيس، وحتى العهد الحالي، بين الاعتذار والتشهير بالمعتذر، بما عُرف بالبراءة أو التوبة. مع أن للعشائر العراقية تراثاً في الاعتذار يخلو من أسلوب التشهير، ومشروطاً بالفصل (الدية)، وقد مورس مع البعثيين. ذلك قُبيل إعادة تأهيلهم بفضل حل الجيش، وفتح الحدود، والفزع من الاجتثاث! الاعتذار المطلوب من البعث، ألا يؤخذ بما يراه الإسلاميون من إعلان التوبة وتنظيم التوابين، مثلما حدث للأسرى العراقيين داخل إيران، ومنهم اليوم محافظون ومدراء، ومثلما فعلها البعثيون مع الثوار الكورد، والحزبيين المتقاعدين من أحزابهم خشية البطش! ولا عبر براءات تشهير، أو حسب ممارسة الأطفال في الطرقات، أو دفع الديات. إنما عبر مراجعة تجربة واعتذار شاملين عن هدر دماء وثروات، وتشخيص مسبباتها وأدواتها. يحتاج ذلك بطبيعة الحال إلى بعثيين من نمط أصحاب تلك المحاولات الشجاعة لإيقاف طاحونة الشر، أوان النظام السابق، مَنْ هلك ومَنْ نجا، يرون في ما حصل جريمة بحق العراق وأهله. هذا، وتبقى المعادلة قائمة: لا مصالحة مع اجتثاث، ولا من دون اعتذار يرجى منه شفاء!

[email protected]