الأعشاب «في زمن الكوليرا»

TT

حتى قبل بضعة عقود كان العطارون هم أطباء المدن العربية وصيادلتها، وإلى حوانيتهم يشد المرضى رحالهم لأخذ وصفاتهم من العقاقير، كما كان يلجأ أبطال مسلسل «باب الحارة» إلى دكان «أبو عصام» العطار.. ومن رحمة الله بنا أن الأمراض في ذلك الزمان تدور في حلقة ضيقة من السعال، والرمد، والزكام، ومن تجاوز مرضه تلك الدائرة المحدودة انتقل إلى رحمة الله .. وتغير الزمن، وبقيت شريحة من الناس على ما ألفت، تصر على السير عكس مسار الأيام.

قبل أيام قلية دق في بيروت نخبة من كبار رجال الطب والصيدلة أجراس الخطر في مواجهة ظاهرة انفلات التداوي بالأعشاب، وما يروجه المتاجرون والمعالجون بها من أوهام، وحملت تلك النخبة الإعلام مسؤولية خضوعه لهيمنة الإعلان مما أدى إلى ذلك الحضور المكثف لمنتجي الأعشاب وخبرائه المزورين في وسائل الإعلام المختلفة.

وليس لبنان وحده الذي يعاني من حالة الانفلات تلك، فعالمنا العربي بأكمله يعيش هذه الظاهرة .. وفي السعودية كل أو جل دكاكين العطارة مازالت تتعامل مع هذه الأعشاب، وأضافت إليها مستحضرات غامضة مهربة من الصين وبعض دول شرق آسيا، ولم أعرف قط أن هذه المستحضرات خضعت لقنوات التحقق والاختبار عبر الطرق العلمية المتعارف عليها قبل طرحها للتداول.. فثمة مستحضرات لتطويل القامة، وأخرى للعجز الجنسي، وثالثة لإنبات الشعر في الرؤوس التي داهمها الصلع كرأسي، ورابعة للصدفية، وخامسة لإزالة السمنة، وسادسة لنعومة البشرة، وصولا إلى أخطر الأمراض.. وأطرف هذه المستحضرات ما حاول أحدهم تسويقه على مجموعة من السياح الشباب في إحدى العواصم العربية، مادة زيتية تصدر رائحة جاذبة للأنثى ـ كما يدعي مروجها ـ مستخلصة من ذكور الغزلان في مواسم التكاثر، وعبثا حاولوا إقناعه بأن الأنثى لابد أن تكون «غزالة» كي تنجذب إلى تلك الرائحة المريبة.

صديق لي تناول أحد تلك المستحضرات لعلاج المفاصل، فتسبب له في إغماءة حادة، ليكتشف بعد تحليل ذلك المستحضر بأن به كمية من مادة مخصصة لتخدير أفيال السيرك، وقد حمد الله أنه اكتشف السب قبل أن ينبت له خرطوم.

وفي تقديري ليس ثمة معيار أكثر مصداقية لقياس رقي الأمم من معرفة الأساليب العلاجية السائدة عبر التشريعات الصحية المنظمة لها، والجدية في مراقبة تطبيقاتها، وكل دولنا العربية أمام هذا المعيار في خانة التخلف، حتى تلك الدول التي لديها قوانين منظمة للعمل الطبي والصيدلي، فإنها تعيش حالة عجز عن إيقاف حالة الانفلات المتمثلة في العلاج بالأعشاب، وبالتالي «كأنك يا أبو زيد ما غزيت». وباختصار: إن حالنا في الإصرار على التعامل مع تلك الأعشاب في زمن الطب الحديث كحال ذلك الرجل في الأساطير القديمة، الذي كل ما تقدم خطوة تراجع إلى الخلف خطوتين.. وكأن مطربنا الشعبي يغمز ساخرا من هذه القناة وصوته يتعالى بالموال: «ع الأصل دوًر»!

[email protected]