لغة الدبلوماسية

TT

حلت سكرتيرة فرنسية محل السكرتيرة الإنجليزية في مكتب أحد الأصدقاء قبل سنوات. سألتها عنه إذا كان موجودا في مكتبه. قالت غير موجود. سافر للرياض ومنها سيذهب لمصر وبعدها يمر بباريس ولن يعود قبل أسبوع. قلت له بعد عودته يا عزيزي، لا تستخدم سكرتيرة غير إنجليزية، فالإنجليزيات مخلوقات لهذه المهنة. وقد اشتقت كلمة سكرتير من كلمة سر «حافظ أسرار». والتكتم من صفات الإنجليز وصاغوا حتى لغتهم بحيث تفي بهذا الغرض. ومن ذلك كثرة استعمالهم لصيغة الفعل المبني للمجهول. فهو يعطيك الخبر بدون الكشف عن الفاعل، وهو ما أصبحت تتطلبه كل هذه الخيانات الزوجية التي راحت تشيع بينهم. أنا لم أسأل هذه السكرتيرة الفرنسية عن تحركاتك وأين كنت وأين ذهبت.

انعكس ذلك على حياتهم الدبلوماسية. «وعد بلفور» خير مثال لها. ما زال الخبراء يتناقشون في ما تعنيه تلك الوثيقة بالضبط. للغة الدبلوماسية شروطها وأركانها التي تتطلب الكثير من الممارسة والتدريب والاستعداد التربوي والنفسي. قالوا إذا وجدت نفسك تائها في سيارتك وأردت معرفة مكانك واتجاهك فسألت رجلا دبلوماسيا مارا في الطريق وقلت: «أين أنا يا سيدي؟»، فسيجيبك قائلا: «في سيارتك!»، فهذا هو الجواب الذي ينطوي على الأركان الثلاثة الرئيسية في اللغة الدبلوماسية. وهي أولا الإيجاز، وثانيا الصحة، وثالثا ألا يعطيك أي معلومات جديدة لم تكن تعرفها مسبقا.

الحذر من الإدلاء بالمعلومات أو التعليق عليها من أهم متطلبات الدبلوماسي والسياسي الناجح. برع في ذلك ثعلب السياسة الفرنسية في القرن التاسع عشر، تاليران. سأله صحافي يوما عن الخبر الذي شاع مؤخرا في فرنسا عن وفاة ملك انجلترا جورج الثالث. فأجابه قائلا: «نعم، هناك من يقولون إنه قد مات. وهناك من يقولون كلا، إنه لم يمت. وأنا لا أستطيع أن أنضم لهذا الفريق أو ذاك فأؤيد أو أنفي. ولكن الرجاء عدم الاستشهاد برأيي في الموضوع. وإذا استشهدت برأيي فسأصدر تكذيبا لما تقوله عني». ولا عجب أن ينطق تاليران بهذه الحكمة: «لقد أعطي الإنسان القدرة على الكلام ليخفي ما في فكره!».

التملص من الطلبات بشكل أدبي ومجامل ركن آخر. وللإنجليز حكميات ظريفة في هذا الموضوع. قالوا إذا طلبت شيئا من موظف دبلوماسي وقال لك:«نعم»، فاعلم أنه يقصد ربما. وإذا أجابك وقال لك «ربما»، فاعلم أنه يقصد كلا. وإذا قال لك «كلا»، فهو ليس برجل دبلوماسي قط.

وللموضوع جانبه بالنسبة للمرأة. فهي الأخرى تحتاج للكثير من الدبلوماسية في حياتها مع الرجال. قالوا إذا حدثت سيدة محترمة عندهم وطلبت منها الوصال وقالت لك «كلا»، فاعلم أنها تقصد ربما. وإذا أجابتك وقالت «ربما»، فاعلم أنها تقصد نعم. وإذا أجابتك وقالت «نعم، هيا بنا»، فاعلم أنها ليست بسيدة محترمة قط.