جولة بوش.. وكشف تناقضات سياسة واشنطن في المنطقة

TT

في خطابه الأساسي، الذي ألقاه في أبو ظبي، خلال جولته في المنطقة قام الرئيس الأمريكي جورج بوش برسم صورة قاتمة لسلوك السياسة الخارجية الإيرانية في المنطقة وعلى امتداد العالم، واصفا إيران بكونها «أكبر خطر يهدد الأمن والسلم العالميين». ورغم حالة المد والجزر التي تشهدها العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية خلال الآونة الأخيرة، إلا أن هذا النوع من الخطاب يعبر عن أحد الثوابت المعلنة في سياسة إدارة بوش تجاه إيران، التي تُعتبر إحدى دول «محور الشر». وبغض النظر عن توجهات الولايات المتحدة الأمريكية تجاه إيران، فإن أهل الخليج، حكاماً ومحكومين، ليسوا بحاجة إلى من يخبرهم أو يذكرهم بكون السلوك السياسي الإيراني يشكل تهديداً لأمن دول المنطقة واستقرارها ووحدتها الوطنية، فالجميع يدرك بشكل واضح الآثار المدمرة لسياسة إيران التدخلية في الشؤون العربية، سواء في العراق أو لبنان أو فلسطين أو حتى اليمن، وربما في دول عربية أخرى.

وثمة أدلة عديدة تكشف عن حقيقة التوجهات والممارسات الإيرانية تجاه الدول العربية بصفة عامة، ومنطقة الخليج بصفة خاصة، فإيران قامت منذ عقود باحتلال الجزر الإماراتية الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، وهي ترفض التجاوب مع ما تطرحه دولة الإمارات العربية المتحدة بشأن حل هذا النزاع سواء من خلال التفاوض الجدي المباشر، أو بإحالة النزاع إلى محكمة العدل الدولية. ورغم أن الموقف الثابت لدول مجلس التعاون الخليجي هو التأكيد على ضرورة حل أزمة الملف النووي الإيراني بالطرق السلمية بما يجنب المنطقة حربا جديدة، إلا أن التهديدات الإيرانية المتكررة بإحراق المنطقة وإغلاق مضيق هرمز، الذي هو شريان الحياة فيها، لا تعزز من فرص تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة. ناهيك بالطبع من طموحات إيران التوسعية وسياستها الرامية إلى بناء مراكز النفوذ عبر التدخل السافر في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ما يكرس من حالة عدم الثقة التي تخيم على المنطقة، حيث لا تقيم إيران اعتباراً لمصالح الدول الإقليمية الأخرى أو احتراماً لسيادتها.

ومع التسليم بضرورة الوقوف بوجه هذه السياسة الإيرانية، ووجوب الحد من طموحاتها غير الشرعية بجميع الطرق والوسائل الممكنة، إلا أن ما طالب به الرئيس بوش دول المجلس وغيرها من الدول العربية الأخرى هو التعامل مع «شجرة الخطر الإيراني» بقطع الأغصان من دون التعامل مع جذور هذا الخطر والأسباب الحقيقية التي أدت إلى تصاعده، فالسياسة التدخلية الإيرانية التي نمت بشكل مطرد خلال الأعوام القليلة الماضية، والتي أصبحت تجلياتها اليوم قائمة في العراق ولبنان وفلسطين، تكمن جذورها الحقيقية في فشل وتخبط السياسة الأمريكية في المنطقة وافتقادها للحكمة وبعد النظر، كما تكمن في الضعف الظاهر، أو بالأحرى الغياب الكامل، للدور العربي.

وبلغة أخرى، يمكن القول: إن خطر إيران على دول المنطقة مصدره الرئيسي خطايا وأخطاء السياسة الأمريكية تجاه المنطقة من ناحية، وحالة العجز التي يعاني منها النظام العربي، ما جعل الأمن العربي مستباحاً من قبل أطراف إقليمية ودولية عديدة من ناحية أخرى. فالغياب العربي والخطايا الأمريكية مجتمعة وفرت، وعلى طبق من ذهب، الفرصة التاريخية لإيران لتحويل أجزاء حيوية من قلب الأمة العربية في العراق ولبنان وحتى فلسطين إلى ساحة نفوذ تتمكن خلالها القيادة الإيرانية من ضمان موقع قوي يكون منطلق دبلوماسية المقايضات والصفقات التي برعت فيها السياسة الإيرانية. فإيران اليوم تتحكم في كثير من مفاصل الدولة العراقية بسبب فشل السياسة الأمريكية في العراق. ومن المفارقات أن واشنطن اضطرت للدخول في مفاوضات مع طهران بشأن العراق، في الوقت الذي تتجاهل فيه الدول العربية المعنية أو التي يجب أن تكون معنية بالمسألة العراقية أكثر من

غيرها. كما أن الانحياز الأمريكي الكامل لإسرائيل، وتجاهلها للحقوق الفلسطينية والعربية المشروعة، أفسحا المجال أمام إيران لتعزز وجودها ودورها في المنطقة من بوابة الصراع العربي ـ الإسرائيلي. كما أن عجز العرب عن بلورة سياسة واضحة وفعالة بشأن التعامل مع إيران وغيرها من دول الجوار غير العربية، وفَّر فرصة لإيران للتغلغل بأشكال مختلفة في المنطقة العربية.

ومع التسليم بأن دولاً عربية عديدة بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي لها خلافاتها واختلافاتها مع السياسة الإيرانية، ولها مخاوفها المشروعة والمبررة من أهداف هذه السياسة وتوجهاتها، ولكن ضمن هذا الإطار، يجب أن يكون للدول العربية بصفة عامة ودول المجلس بصفة خاصة مواقفها التي تنبع من مصالحها الذاتية بمعزل عن المصالح والمتطلبات الأمريكية. إننا نؤمن أن السياسة الإيرانية هي مصدر تهديدات وأخطار، ولكننا لا نتفق مع الرئيس الأمريكي في تأكيده على أن إيران تعد مصدر الخطر الأساسي وربما الوحيد. وانطلاقا من الأوصاف التي أطلقها الرئيس الأمريكي على السياسة الإيرانية في كونها داعمة للإرهاب، ومن دون الدخول في جدل بشأن مدى صحة ذلك من عدمه، يمكن القول: إن احتلال إسرائيل للأراضي العربية وممارساتها الإجرامية تجاه الشعب الفلسطيني لا تقل خطورة وشراً عن سياسة إيران المفترضة في دعم وتمويل الإرهاب، وإن الاحتلال الأمريكي للعراق وممارسات المحتل غير الإنسانية هناك يجب أن تُعامل بنفس الموقف وبنفس الحدة والصرامة من «الإرهاب الإيراني» المفترض.

فالتهديد الإيراني للأمة العربية، الذي يحلو للرئيس الأمريكي التطبيل له، يجب ألا يصرف نظرنا عن تشخيص وإدانة الإرهاب الذي تمارسه إسرائيل وأمريكا على شعبنا في نفس الوقت. فإذا كانت هناك مصلحة للرئيس الأمريكي باتباع أسلوب الانتقائية والكيل بمكيالين، في تعامله مع الخطر الإيراني، فإن مصلحتنا تتطلب الافتراق عند هذا الطريق. موقفنا يجب أن يكون واضحاً وصريحاً في القول: إننا أمسينا اليوم، مجتمعين أو فرادى، ضحايا وهدفا للإرهاب الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ الإيراني، وإن موقفنا الأساسي يجب أن تحكمه معايير موحدة تجاه الإرهاب أياً كانت مصادره أو أشكاله.

وفي ضوء ما سبق، فإنه من المهم جداً أن تصل الرسالة الحقيقية والصحيحة إلى الرئيس بوش، ومفادها أن السياسة الأمريكية غير الحكيمة، وما ترتب عليها من مغامرات غير محسوبة، شكلت، وتشكل، أكبر تهديد لأمن المنطقة واستقرارها، فإسرائيل لم تكن لتواصل سياساتها العدوانية تجاه العرب لولا الدعم الأمريكي اللا محدود لها، وإيران لم يكن لها لتمدد دورها في العراق وفي مناطق أخرى من العالم العربي لولا الفشل الأمريكي في العراق، وحالة العجز المزمنة التي يعاني منها النظام العربي. ومن هنا فإن حسن الضيافة العربية التي اُستقبل بها الرئيس الأمريكي في العواصم الخليجية والعربية التي زارها خلال جولته الأخيرة لا تعني، كما لا يجب أن تُفسر، أنها موافقة على مواقف إدارته وسياساتها تجاه المنطقة، والتي باتت تشكل مصدراً رئيسياً لتهديد الأمن والاستقرار فيها.

* رئيس مركز الخليج للأبحاث

[email protected]