السابقون واللاحقون

TT

حبذا لو كانت العلمنة السياسية هدف القطبين المارونيين المتصديين لنفوذ المرجعية الدينية المارونية في لبنان ـ لاعتبرت حملتهما «قضية» تساهم في التطوير الحضاري للتركيبة المذهبية في لبنان.

وحبذا لو جاءت الحملة حصيلة حركة وطنية ليبرالية تدعو، على حد تعبير عيسى بن مريم (عليه السلام) الى اعطاء الله ما لله ولقيصر ما لقيصر، ولو بحده الادنى، أي فصل «المرجعيات» الدينية عن الدولة في لبنان ـ لأكدت بالتالي استقلاليتها عن الولاء لمرجعية دينية أخرى، غير لبنانية وغير عربية، واجتذبت دعم الليبراليين اللبنانيين إلى أي طائفة انتموا. الا ان المؤسف ان الحملة على البطريركية المارونية، في خلفيتها ودوافعها، لا تخرج عن صراع نفوذين سياسيين تقليديين على الساحة المارونية الضيقة في لبنان. ولكن المفارقة التي يصعب تجاهلها في هذا السياق انه في وقت يسعى فيه بعض السياسيين الموارنة الى نزع «هالة القدسية» عن مرجعيتهم الدينية الأولى يتجه الشارع الشيعي، بالمقابل، الى إضفاء «هالة قدسية» على سياسييه المعممين إلى حد اعتبار أي انتقاد لطروحاتهم السياسية اعتداء على مقاماتهم الدينية ـ رغم انهم لا يمثلون المرجعية الدينية الاولى في طائفتهم. هل يمكن اعتبار هذين المسارين المتناقضين لشريحتين مذهبيتين مؤثرتين دليلا آخر على وجود «لبنانين»، لا لبنان واحد، على الساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط؟

وعليه ألا يجوز التخوف من ان يكون الكيان السياسي اللبناني قد دخل مرحلة تفكك عبر بوابة التباين الاجتماعي ـ السياسي لما يسمى بالحركية الاجتماعية (Social Mobility) لطوائفه الدينية؟

إن جاز طرح هذا التساؤل على خلفية الدور المحوري الذي لعبته البطريركية المارونية في تاريخ لبنان الحديث، وتحديدا دورها الفاعل في تأسيس «لبنان الكبير» عام 1920، يجوز التخوف من أن تكون محاولة تحجيم موقعها السياسي على الساحة اللبنانية ـ في مرحلة يمر فيها لبنان بتحولات ديمغرافية وسياسية دقيقة ـ محاولة لإلغاء «طائفة الكيان اللبناني» توطئة لإلغاء الخاصية السياسية التي تميز هذا الكيان عن غيره في المنطقة وتجعله جسرا حضاريا وثقافيا بين الغرب والشرق. اللهم ليس دفاعا عن الموقع السياسي للبطريركية المارونية ولا حتى دفاعا عن «طائفة الكيان» بل حرصا حضاريا، لا قوميا، على «الكيان ـ الضمانة» الذي تحول الى تجربة تعايش رائدة في العالم العربي وإلى ملاذ للاقليات المضطهدة، وتحسبا من أن يستكمل إلغاء الموقع الماروني في السياسة اللبنانية بإلغاء علة وجود لبنان التعددي المستقل.

هذا لا يعني أن «طائفة الكيان» لا تتحمل مسؤولية الواقع المرير الذي تتخبط فيه اليوم، ففي إخفاقها في ترجمة التعددية المذهبية للكيان اللبناني الى نظام تعايش مؤسساتي منصف لكل الاقليات المذهبية فيه، ونزوعها في أوج نفوذ «المارونية السياسية» الى إلغاء الآخرين (بما فيها الاحزاب الليبرالية) لصالح الهيمنة المطلقة على الساحة اللبنانية... مهدا الارضية السياسية للتوجهات الحمائية لدى المذاهب اللبنانية الاخرى (الامر الذي برز جليا إبان الحرب الاهلية اللبنانية).

من هذا المنظور تعتبر «الشيعية السياسية»، بتطلعاتها الراهنة للسيطرة على كل لبنان، الوجه الآخر «للمارونية السياسية» المحبطة. وعلى هذا الصعيد يحق لشيعة لبنان ان يقولوا لموارنته: انتم السابقون ونحن اللاحقون، فما كان مشروع هيمنة مارونية على لبنان بحماية إقليمية يسعى اليوم إلى تقليده مشروع هيمنة شيعية بحماية إقليمية أيضا... مع فارقين اساسيين:

* قدرة الشيعية السياسية على إدراج الحماية الخارجية لمشروعها في إطار خطة قومية عربية تحريرية تجعله «مقبولا» من بعض الطوباويين القوميين بصرف النظر عن طابعه الاصولي الشمولي.

* اختراق الشيعية السياسية للصف الماروني باستقطابها لزعامتين مارونيتين تساهمان، عبر الولاء الاقليمي لإحداها والجموح الرئاسي للثانية، ليس في الغاء المعادلة المارونية على الساحة اللبنانية فحسب بل في زعزعة أسس الصيغة التعددية بأكملها.

وإذا أخذت في الحسبان عمليات التسليح الناشطة في لبنان اليوم والتدريبات الميليشياوية المرافقة لها يمكن الاستنتاج بأن المرشح الفعلي للزعزعة لن يكون الصيغة التعددية في لبنان... بل الكيان اللبناني بأكمله.