التسيب بيت الداء...!!

TT

مَنْ لي بانسان أقسم بأن يؤدي واجبه دون اهمال وبدون تسويف، وبر بقسمه؟!.

مَنْ لي بانسان اقسم بأن يلتزم بمسؤولياته كاملة دون تقصير وبلا تسيب، وبر بقسمه؟!.

مَنْ لي بانسان يخاف ربه في عمله ويخشاه ويتقيه فلا يسرق أو يرتشي، وبر بقسمه؟!.

مَنْ لي بانسان اقسم بأن يقوم بعمله باخلاص وتفان دون كسل وبدون تهاون، وبر بقسمه؟!.

مَنْ لي بانسان اقسم بأن يعطي كل ذي حق حقه كاملا غير منقوص، وبر بقسمه؟!.

مَنْ لي بانسان اقسم على أداء أمانة أؤتمن عليها، وبر بقسمه؟!.

آتوني بهؤلاء أو بعض من هؤلاء وأنا أعطيكم مجتمعا خاليا من التقصير، والإهمال، والرشوة، وسرقة المال العام، والفساد، و«المحسوبية»، والظلم، وغير تلك من صفات الرذيلة، والشر، ومن أخوات السوء، والغبن، وباقي الآفات التي تعج بها مجتمعات البشر اليوم، تماما كما ابتليت بها مجتمعات وأمم سابقة ضرب الله بها الأمثال في كتابه المعجز لتتعظ بها أمة محمد عليه السلام وتأخذ العبرة منها.

فهل اتعظت امتنا واتبعت طريق الهدى والرشاد والتزمت بقيمها، واسترشدت بمبادئها؟!.

ان المتمعن في أحوال مجتمعات امتنا الاسلامية يلحظ كيف اصبح التسيب يضرب بجذوره في تربتها ويعشش في زواياها ويعيث هدما في أركانها حتى صار سيد الموقف في كثير من تصرفات البشر فيها، ولو بنسب متفاوتة، فنحن لا نبالغ ان عزونا حوادث السيارات وتصادم القطارات وانهيار العمارات واخطاء الاطباء وأزمات المرور ومشاكل الانتاج ورداءة التصنيع، وغيرها من أمور ومشاكل وقضايا أخرى الى التسيب ليكون سببا فيها إما بصورة مباشرة وهذا هو واقع معظم الحالات أو بطريقة غير مباشرة والمحصلة في نهاية المطاف واحدة.

فالتسيب واخوانه الاشقياء يضرون بالقيم ويزلزلونها ويهزأون بها ويقضون على فعالياتها ان هم تسلطوا على المجتمع وأفراده ليقودوه الى التدهور والارتباك والخيبة والارتجال، والنتيجة الحتمية هي بلا ريب تخلف يلف الجموع ويطوي المجتمع.

والتسيب واشقاؤه الاشقياء التقصير، والاهمال، والتراخي، والتهاون، وعدم المسؤولية، وعدم الالتزام، وعدم الانضباط، وانعدام الضمير، وضياع الأمانة، وقل ما شئت من مثالب، وصفات في تصرفات البشر السيئة وسلوكياتهم المشينة تعتبر من أهم اسباب التخلف الحضاري الذي تعيشه مجتمعات أمتنا اليوم بعد ان اضطربت الاخلاق، وارتبكت المعايير، وتخلخلت المبادئ، ومرضت القيم.

فمثلما للاجسام أمراض تغزوها لتفتك بها، فإن للقيم أيضا أمراضاً تهزمها من أعماقها لتمحو فعالياتها، واذا كانت أمراض الاجسام عضوية أو نفسية فإن أمراض القيم أمراض حضارية ليس آخرها التسيب وعائلته الشقية.

ولأننا ـ كأمة ـ لم نُفِّعل قيم الخير، والحق، والعدل في النفس البشرية من خلال النظم التربوية والاخلاقية والاجتماعية بما فيه الكفاية، ولم نبذل الجهد الكامل كي نربي أجيالنا منذ نعومة أظفارهم على الالتزام، والجدية، والحزم، وتحمل المسؤولية، والاعتماد على النفس والثقة بها، وابداء الرأي بقدرة وثبات، والتعبير عن الذات بأدب ولباقة، والجرأة في قول الحق بعزيمة واعتقاد من خلال التعامل في البيت والمدرسة والمسجد ووسائل الاعلام، ومن خلال نماذج القدوة الحسنة في المجتمع، لهذا كله كانت المحصلة ما نشاهده ونسمع عنه على فترات من كوارث، وأزمات ومصائب، ونكبات، وحوادث، وانتكاسات في مجتمعات الأمة.

فلو التزم الموظف بالمسؤولية في اداء واجبه، ورجل الاعمال بالأمانة والصدق في تعامله، والمعلم بالاخلاص في تدريسه وبتشجيع طلابه على التفكير والنقاش، والطالب بالاقبال على العلم بشغف وحرص وباحترام معلمه، والعامل بانجاز عمله بدقة وحماس، والسائق بقواعد المرور وبالذوق والتسامح في قيادته لمركبته، وغيره، وغيره فالقائمة طويلة.. نقول لو ان كل هؤلاء قاموا بما يجب ان يقوموا به بلا تسيب لانخفض معدل التراخي والكسل الى المستوى الأقل، ولتقلص التقصير والاهمال الى الحدود الدنيا، ولصلح حال المجتمعات الاسلامية الى الدرجة التي تجعل أفرادها يتعاملون مع أنفسهم بوعي وادراك وتقدير وخلق كريم، فينالون احترام الشعوب المتحضرة، ويتعاملون معها بندية ومساواة.

أنا هنا لا أبحث عن المجتمع الملائكي ولا أدعو الى المدينة الفاضلة فذاك وتلك لا يستطيع انسان ان يقيمهما على الأرض، فمكانهما ليس في دنيا الناس بل في الجنة التي وعد الله بها عباده المتقين، ولكنني أتحدث بنسبية وواقعية، اذ لا أحد يجحد واقع المجتمعات البشرية اليوم فهي تزخر بقيم الخير أضعاف ما تعج به من وسائل الشر، ومهما التصق المجتمع الذي يؤمن بعقيدة سماوية بقيمه ومبادئه أو حتى المجتمع الذي يتبع فلسفة بشرية بقيمها ومبادئها فإن البشر هم البشر، وسوف يظل الصراع القائم بين الخير والشر محتدما حتى تقوم الساعة، ذلك هو قدر البشرية، وستكون الغلبة دوما للخير بدون شك... كل هذا صحيح ولا ينكره أحد، ولكن (وآه من لكن هذه!) يبدو ان مستوى التسيب في مجتمعاتنا فاق الى حد كبير المعدل البشري، واصبحت نسبة مشاركته في التأزم والتخلف عالية ومحسوسة.

فانتبهوا ايها السيدات والسادة: التسيب في مجتمعاتنا هو بيت الداء، والتربية الصحيحة وتفعيل قيم الخير والحق والعدل في النظم من أساسيات اضمحلاله وربما انعدامه وزواله، اما الدواء الناجع فهو العقاب الحازم الصارم الرادع لتصحيح الأوضاع، لأن الله يزغ بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن، وصدق الله القائل «وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر، ولو شاء لهداكم أجمعين».

(سورة النحل، الآية رقم 9) [email protected]