ملفات الفساد تحت الطاولات المكسورة!

TT

متشعبة جدا، تلك الأسباب التي أدت إلى تآكل المشروعيات السياسية في المنطقة العربية. ولعل ظاهرة الفساد، التي أصبحت أشبه ما تكون بمسلسل لا حد لحلقاته، تمثل في الآن نفسه سببا ونتيجة حتمية لتلك الخصائص الجاحظة التي تتميز بها الدولة الوطنية في الجغرافيا العربية، أي أن الفساد السياسي والاقتصادي ساهم بشكل كبير في تآكل المشروعية السياسية التي تعتبر الأساس الأول لعلاقة السلطة بالمجتمع، وهي علاقة قائمة على معادلة المنجز والمتوقع. وطبعا الفساد من الأسباب القوية القادرة على جعل منجزات السلطة ضئيلة تضاهي الفتات مما يصيب توقعات المجتمع بالخيبة المتكررة ويخلق أزمة تقبل وازمة ثقة، من دون ان ننسى ان المخيال الاجتماعي العربي بطبيعته، ـ حسب قراءة العروي ـ لا يمكن ان يتصور دولة بلا استئثار جماعة معينة للخيرات فما بالنا عندما يجد هذا المخيال نفسه أمام وقائع وملفات متتالية ومتراكمة تؤكد تصوراته وتحولها الى معطيات ثابتة.

وإن كانت هذه الظاهرة عامة إلا أنها متفاوتة في مدى استفحالها. وما يعنينا في الحقيقة ليس مدى انتشار الورم بقدر ما تهمنا دلالات تفشي ظاهرة الفساد ثم ـ وهذا الاخطر ـ كيفية تعامل السلطة مع هذه الظاهرة والى أي حد تبدو متورطة في هذا البلاء، الذي وان تتكبد المجتمعات خساراته وآثاره فإن الخاسر الأول هو السلطة التي ستفقد مضامينها الحقيقية وستتلاشى مشروعيتها التي بدونها يصبح لا معنى للحديث عن نخب حاكمة.

من المهم جدا ان نشير الى أن الفساد، الذي اصبحنا نتحدث عنه اليوم باعتباره ظاهرة، يمثل في حقيقته آلية من آليات التسيير السياسي في المنطقة العربية، وهي آلية تمكنت من التغلغل بقدرة قادرين من عالم الإنس، ومن صنع قنوات خاصة أصبحت مع مرور الزمن صعبة المحاصرة وعصية الاقتلاع، لأن للفساد أصحابه وأنصاره والمستفيدين الذين يبذلون كل ما في طاقاتهم كي يبقى آلية قوية وفاعلة وفعالة.

وهذه الآلية ليست ثانوية، ولا هي تتحرك في هوامش دواليب التسيير والحكم، بل هي متمركزة اساسا في مجال حساس جدا يتمثل في نمط توزيع الثروات، خاصة ان من توقعات المجتمع الأولى أن يحظى الشعب بتوزيع شبه عادل للثروات، لكن حصول الفساد وتراكم قرائنه يعني أن آليات توزيع الثروة ومسالك دورانها لا تخلو من ثغرات تغرق المجتمع وتضعه في مواجهات دائمة مع العقلية المخزنية والبيروقراطية المتضخمة التي تفتح الأبواب على مصراعيها لتنامي ظواهر الرشوة والعشائرية والمحسوبية والمحاباة.

وكم هو مؤسف ان يعلن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في خطابه الأخير في منطقة ادرار الجزائرية بأنه لو يوزع ما في ميزانية الدولة من مال فإن كل جزائري لن ينال سوى ما يعادل نصف دولار، مشيرا بهذا التصريح الى جرائم الفساد والنهب التي تعرض لهما المال العام الجزائري، وبسبب هذه الجرائم بالذات تتخبط الجزائر في ازمات البطالة والسكن والقدرة الشرائية المتدهورة، حتى اصبحت الحياة أشبه ما تكون بغليان بركان.

وفي مصر، راجت اخبار تشير الى فتح ملفات انحرافات البورصة والمخالفات القانونية، مع العلم انه قبل سنوات قليلة اثيرت قضية قروض النواب وتجاوزات بعض الوزراء وابنائهم واستغلال عدد من المسؤولين مناصبهم للتربح ويحصل كل هذا في بلد يعج بالانفار وبمن يعاني الأمرين لتأمين عيش زهيد.

طبعا، للأسف الشديد الوقائع عديدة ويصعب عدها او احصاؤها، لكن بعيدا عن الامثلة فإن هذه الظاهرة، كما يحلو للكثير أن يصفها، هي وليدة ما تتميز به الدولة الوطنية في المنطقة العربية من شخصنة ومن دولنة ومن باترومانيالية مغرقة تجعل السائس يرى في بلاده امتدادا لشخصه، وأن كل من يؤثث محيطه هم عبارة عن افراد مهمشين لا حضور سياسياً فعلياً لهم، الشيء الذي يجعل من علاقتهم بمناصبهم علاقة انتهازية وعلاقة استغلال نفوذ في مجالات قد لا تقع عليها الأعين القريبة.

وفي الحقيقة فإن أرباب الفساد في المنطقة العربية هم ثاني من يقف ضد الديمقراطية ويحاربها بشراسة في ملاعب الكواليس، لأن الديمقراطية تعني سيادة دولة المؤسسات واعتماد البيروقراطية العقلانية وأن تطغى قوة القانون بدل قانون القوة، وهذه القيم تمنع بعض الأرصدة من التضخم. ان حرص النخب العربية على تمركز السلطة في قبضتها هو الذي يمنع حضور اطراف تعتبر حواجز للفساد ويجلعها غائبة مع سبق الاصرار والترصد. والمقصود بالأطراف الغائبة هي تلك المجسدة فعليا للمجتمع المدني، والمحققة لطموحات مجتمع الأعماق، والحارسة الأمينة للمال العام ولثروات البلاد، خصوصا الصحافة، خاصة منها الصحافة الاستقصائية،، فضلاً عن قيام القضاء بدوره الذي اصابته عديد الطعنات في بلداننا.

وكما هو معلوم لعبت الصحافة الاستقصائية في الغرب دورا رئيسيا في تكريس مبادئ الديمقراطية، ولعلنا نتذكر جيدا قضية «ووترغيت» وكيف ساهمت التقارير الاخبارية التي نشرها صحافيان واعتمدها الكونغرس الاميركي في تحقيقاته في استقالة ريتشارد نيكسون من منصبه. وتعني الصحافة الاستقصائية ـ حسب التعريف الذي وضعه الكاتب الأميركي سيلفيو وايزهورد، نشر معلومات حول السلوك الخاطئ الذي يلحق الضرر بالمصلحة العامة، وتستند الاتهامات الى معلومات المراسلين لا الى المعلومات التي يتم تسريبها الى مكاتب التحرير! وبسبب تغيب هذه الأطراف المحققة للديمقراطية والمانعة للفساد، يصبح من حق المجتمع توجيه اصبع الاتهام الى السلطة ولا سبيل الى ان يعلن الساسة عدم مسؤوليتهم تجاه ما يحصل لأن من يضع جهاز الحكم برمته فوق اصبعه ويرفض ان تشاركه اطراف اخرى في التخطيط والمراقبة والمحاسبة عليه أن يتجرع تبعات الحكم المطلق. ومن المناورة السياسية المكشوفة أن يطلب من المجتمع تحمل المسؤولية، خاصة ان الذي يفتقر الى المؤسسات الحقيقية والمنابر المعبرة عنه ولقيم المواطنة، الايجابية لا يستطيع ان يكون مسؤولا. من جهة اخرى فإن خطورة ملفات الفساد تكمن في كيفية تعامل السلطة معها، حيث ان الاعلان عنها يخضع الى مناورات تقوم بها السلطة في حالات التأزم الاجتماعي والاقتصادي فيتم تسريب بعض الملفات الى صحافة الولاء الدائم ودفع جهات ذات مهام قضائية الى فتح تحقيقات. وتندرج هذه التحركات في اطار محاولة ايجاد اكباش فداء لتقديمها قرابين تغطي فشل الدولة في اشباع توقعات المجتمع. ومن يحاول ان يراجع مواعيد الكشف عن ملفات الفساد سيلاحظ انها اما ترد الى إبان تولي الحكم أو عندما يقترب موعد الانتخابات أو حين يظهر للساسة ان يجددوا مضامين مشروعيتهم المتآكلة، وذلك عن طريق حملات التطهير وشبكات صيد طيور الظلام وهي حملات تظهر فجأة ثم تختفي فجأة مع ان أسباب ظهورها ما زالت قائمة الذات. واحيانا يحدث قضية من قضايا الفساد لتحويل انظار المجتمع نحو الداخل فتسرب الدولة تنازلاتها الخارجية.

ان اخضاع الحملات التطهيرية الى أبعاد توظيفية يعني ان اصلاح الفساد ليس وليد ثقافة سياسية أو قناعات متجذرة أو تمظهرات ضمير سياسي نقي، بل يدخل ضمن حماية وجه الدولة الذي قد يتعرض الى الخدش. والدليل هو أن هذه الملفات تحفظ تحت الطاولات طويلا، وفي الوقت المناسب توضع فوق الطاولات وعلى الصفحات الأولى للجرائد بعد تسريبها لمكاتب التحرير، في حين ان مقاومة الفساد واجبة في كل وقت، والوقاية منه لا تكون الا بتوخي الديمقراطية منهجا ورؤية وقناعة.

* شاعرة وكاتبة تونسية