كيف يفكر الإسرائيليون في مواجهة الانتفاضة؟

TT

شكلت الانتفاضة الفلسطينية تحديا للمجتمع الاسرائيلي، تحديا مقلقا. واذا كان تحدي الانتفاضة يبدو في ظاهره تحديا أمنيا، فانه في العمق تحد مصيري ووجودي، يدركه الاسرائيليون بقوة، ولكنهم يردون عليه بالهرب أو بالحماقة أو بالتوجه نحو تدمير الذات.

وقد أفرز تحدي الانتفاضة، مناهج وطرقا في التفكير السياسي الاسرائيلي، تدفع نحو زيادة حدة المشاكل أكثر مما تدفع نحو ايجاد حلول موضوعية لها. وتنبع أساليب التفكير الاسرائيلي بغالبيتها من فكرتين أساسيتين لهما الغلبة على كل ما عداهما:

فكرة القوة الاسرائيلية التي تستطيع أن تفرض ما تريد، وفكرة «الآخر» الفلسطيني أو العربي الذي لا خيار أمامه سوى أن يقبل ما يريده الاسرائيليون. وتعبر هذه الفكرة عن نفسها أحيانا، وبعد أن تصطدم بالمطالب الفلسطينية والعربية، من خلال القول: ليس هناك في الطرف الآخر من نفاوضه.

ان أسلوب التفكير الاسرائيلي هذا يسيطر على أجواء النخبة الاسرائيلية من سياسيين وعسكريين، ولكنه واسع الانتشار ايضا في أوساط الجمهور، وقد كان انتقال الجمهور الفوري والسريع، من منح الثقة القوية لايهود باراك وحزب العمل، الى منح الثقة القوية الى آرييل شارون وحزب الليكود، أبرز تعبير عن رسوخ هذا النوع من التفكير في وجدان الاسرائيليين، فشارون هو «القوة» التي ستضرب وتضرب لكي تجبر الفلسطيني والعربي على القدوم الى طاولة المفاوضات مستسلما، وحين لا ينجح شارون في مخططه الأمني، تعلو الأصوات من حوله تدعوه للضرب بقوة أكبر، وتدعوه لتدمير وانهاء وجود السلطة الفلسطينية، وتدعوه حتى الى شن الحروب الاقليمية، وهو ما لا يستطيعه شارون بسبب تعقد الصورة الدولية من حوله. ولكن التفكير المتركز على القوة والعنف، يفرز أيضا توجهات سياسية واستراتيجية تدفع منطق القوة والعنف الى مداه الأقصى، ابرزها الخوف من الوجود الفلسطيني داخل دولة اسرائيل، والسعي لمواجهة هذا الخوف بفكرة الترانسفير (الترحيل)، وهو تفكير من شأنه أن ينقل فكرة الانتفاضة من الضفة الغربية وقطاع غزة (المناطق المحتلة منذ العام 1967) الى داخل دولة اسرائيل (المناطق المحتلة منذ العام 1948). ونستعرض هنا بروز فكرة الترانسفير وتجلياتها الحديثة، ومن دون العودة الى جذورها وتجلياتها القديمة في الفكر السياسي الاسرائيلي.

مؤتمر هرتسليا شهد فندق «دان أكاديا» في مدينة هرتسليا يوم 19 ديسمبر (كان الاول) أواخر العام الماضي، مؤتمرا ضم النخبة الاسرائيلية العليا من مختلف الهيئات والمؤسسات، وناقش المؤتمر وثائق عدة من بينها وثيقة حملت اسم «الخطر الديمغرافي»، وهو بالطبع الخطر الديمغرافي الفلسطيني الذي يتهدد الوجود اليهودي في فلسطين.

وصفت الصحافة الاسرائيلية المؤتمر بأنه شبيه بالمؤتمر الاقتصادي العالمي الذي ينعقد سنويا في مدينة دافوس السويسرية، وشبهته كذلك بمؤتمر «غابة بلدربرغ» في هولندا الذي ولد عام 1956 كمنتدى سري ومغلق لدرس مشاكل العالم وتنسيق السيطرة عليها، وهو مؤتمر يجتذب اليه شخصيات سياسية وأمنية عالمية بمن فيهم رؤساء وزراء سابقون، يتسابقون وربما يدفعون المال كي يحظوا بدخول هذا النادي النخبوي.

دعت الى مؤتمر هرتسليا الذي حمل اسم «توازن المناعة والأمن الوطني الاسرائيلي» شخصيات من نوع موشيه كتساف رئيس الدولة، وايهود باراك رئيس الوزراء آنذاك، وبنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الأسبق، وآرييل شارون رئيس الوزراء الحالي، وشاؤول موفاز رئيس الأركان، بالاضافة الى حوالي 300 شخصية من السياسيين والاقتصاديين والأكاديميين وقادة أجهزة الأمن.

من المحركين الأساسيين في الدعوة للمؤتمر، ورئيسه عند الانعقاد، عوزي أراد المسؤول السابق في جهاز الموساد والمستشار السياسي لنتنياهو سابقا. وقد بدأ أراد التفكير في عقد المؤتمر منذ سنوات، ولكن الفكرة خرجت الى حيز التنفيذ في أجواء الأزمة الاسرائيلية التي تبلورت بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية. وكتعبير عن أهمية المؤتمر قال أراد «من لم يكن هناك بدا وكأنه لا ينتمي للشريحة الاسرائيلية القيادية».

تشكلت قبل انعقاد المؤتمر لجان تحضير درست مواضيع عدة ناقشها المؤتمرون منها: ميزان الدفاع والردع لدولة اسرائيل (الحرب ضد الانتفاضة، الحرب مع الدول المجاورة، الحرب في الدائرة الأبعد)، التهديد الديمغرافي الفلسطيني، التفوق الاسرائيلي التكنولوجي. وبلور المؤتمر في حصيلة المناقشات وثيقة مفصلة تضمنت النتائج والاستنتاجات والتوصيات التي ستوضع امام أنظار اصحاب القرار، وكان أبرز ما فيها موضوع الخطر الديمغرافي والتوصية المرتبطة به، وجوهرها ضرورة التوجه نحو الترانسفير أي ترحيل الفلسطينيين المقيمين داخل دولة اسرائيل (عددهم الآن يزيد عن مليون ومائة ألف).

وصف الكاتب الاسرائيلي يائير شيلغ (هآرتس ـ 25 ـ 3 ـ 2001) الوثيقة التي أعدها المؤتمر، وقدمت الى رئيس الدولة في مراسم احتفالية، بأنها «وثيقة مذهلة، مذهلة في توصياتها، ومذهلة في روحها العامة، وهي تتلاءم مع توجه اليمين المتطرف ورؤيته»، ونقل ملخصا لبعض أفكارها الأساسية جاء فيه:

1 ـ تولي الوثيقة اهتماما كبيرا للتهديد الديمغرافي الذي تواجهه اسرائيل اليهودية من جانب السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية، ومن جانب فلسطينيي 1948، وجاء فيها ان الولادة في أوساط المسلمين (والفلسطينيون المسيحيون ؟؟) في اسرائيل 4.6 نسمة للمرأة الواحدة، وهذا يقارب ضعف التكاثر اليهودي في اسرائيل (2.6 نسمة للمرأة الواحدة)، وينتج عن هذه الأرقام أن الفلسطينيين المسلمين (؟؟) يشكلون الآن خمس السكان (1:5) وسيشكلون خلال السنوات العشرين القادمة ثلث السكان(1:3).

2 ـ ينطوي هذا الوضع حسب الوثيقة على مغزى أمني خطير يتعلق بهوية اسرائيل كدولة يهودية، كما ينطوي على مغزى اقتصادي، فللوسط العربي المتكاثر في اسرائيل مميزات وخصائص اجتماعية ـ اقتصادية تحوله الى صخرة تثقل على تطور اسرائيل ورفاهيتها، ذلك لأن نسبة المشاركة في قوة العمل في أوساط فلسطينيي 1948 منخفضة (النساء والأطفال لا يعملون حسب الوثيقة)، وفي المقابل يستهلك السكان الفلسطينيون خدمات عامة (تربية، صحة، تأمينات) بدرجة تفوق بشكل ملموس نسبتهم في مجموع السكان.

3 ـ توصي الوثيقة بالغاء مخصصات التأمين للعائلات كثيرة الأولاد (أي العائلات الفلسطينية). وتوصي بتوطين سكان يهود في مناطق كثافة الفلسطينيين، وبخاصة في الجليل والنقب، لمنع نشوء تواصل جغرافي لأغلبية عربية في هذه المناطق. وتوصي بتبادل تجمعات سكانية بين اسرائيل والدولة الفلسطينية (أي ترحيل فلسطينيي 1948 وفلسطينيي القدس).

4 ـ يقترح معدو الوثيقة فكرة الترانسفير (الترحيل) حتى لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن من دون ذكرها صراحة فيقولون «ستكون هناك حاجة لايجاد مخرج في مكان غير اسرائيل (ربما في شرق الأردن) لتوطين السكان الفلسطينيين من الضفة الغربية، اذا لم يكبحوا من وتيرة تكاثرهم».

رحبعام زئيفي يتحدى حدث كل هذا أيام حكومة ايهود باراك العمالية، وما أن نجح آرييل شارون الليكودي وشكل حكومته اليمينية بالتحالف مع حزب العمل، حتى برز موضوع الترانسفير (الترحيل) كجزء من النقاشات الداخلية الدائرة بين الأحزاب، فطالب حزب العمال بتنحية رموز اليمين المتطرف عن التشكيل الوزاري، وفي مقدمتهم رحبعام زئيفي، لأن حزبه يتبنى رسميا فكرة الترانسفير، ولكن زئيفي تصدى لهذه الحملة انطلاقا من أن الترانسفير سياسة اسرائيلية ثابتة، مورست منذ قيام الدولة حتى الآن، وقد مارسها حزب العمل قبل اليمين بسنوات طويلة، ولذلك اعتبر زئيفي حزبه استمرارا للتراث الاسرائيلي وليس طارئا عليه. وقد كتب زئيفي مقالة في صحيفة معاريف (4 ـ 3 ـ 2001) جاء فيها «نحن نتبنى فكرة الترانسفير، وما الخطأ في ذلك؟ ان الترانسفير الذي نقترحه هو ترانسفير طوعي، أو بالاتفاق، وهو انساني، بينما تبنى حزب ماباي (اسم حزب العمل سابقا) الترانسفير بالاكراه». ويستعيد زئيفي عملية الترانسفير الاجباري التي مورست في اللد والرملة عام 1948 فيقول «حين حررنا (!!) اللد والرملة لم نعرف كيف نتصرف (مع السكان المدنيين)، وسألنا القيادة، فأمر المقدم اسحق رابين أن نبعدهم، وقال ان هذا أمر صادر عن دافيد بن غوريون رئيس الحكومة ووزير الدفاع (آنذاك)، لقد فعلنا ما أمرنا به. هل يعرف حزب العمل ذلك؟»، وينهي زئيفي مقاله متسائلا ومتحديا قيادات حزب العمل «اذا كانت لديكم فكرة حقيقية لحل الصراع الاسرائيلي ـ العربي، باستثناء فكرة الترانسفير، لطفا قدموها لنا، يسرنا أن نسمعها». شلومو غازيت يصلي شخصية اسرائيلية بارزة أخرى من نوع شلومو غازيت، تناقش الموضوع نفسه وكأنها تدق ناقوس الخطر. يعلن شلومو غازيت أنه يصلي من أجل أن تتمكن الديمقراطية الاسرائيلية من مواجهة هذه المشكلة. يقول في مقالة له في صحيفة يديعوت أحرونوت (28 ـ 3 ـ 2001): «اتضح لي من قراءة وسماع توقعات الديمغرافيين، أنه في السياق الحالي، واذا لم نتخذ الخطوات المطلوبة والحيوية، ستكف اسرائيل عن البقاء كدولة يهودية باغلبية يهودية واضحة ومضمونة»، ويتساءل غازيت: ما الذي يتوجب فعله؟ ويجيب بما يلي: أولا الاعتراف بوجود الخطر... والحاجة الى سياسة طوارىء وطنية، ثانيا اتخاذ خطوات تمنع زيادة فلسطينيي 1948 داخل الدولة (كيف ؟؟)، ثالثا اتخاذ خطوات لزيادة السكان اليهود في الدولة من خلال الهجرة، والتهويد الجماعي (؟؟) لكل من هو غير يهودي ويرغب في ذلك. ويختم غازيت داعيا الى العيش في جو طوارىء، واتخاذ خطوات طوارىء «لكي نجد الخلاص».

وتكمن أهمية كلام شلومو غازيت في أنه لا ينطلق من خلفية يمينية على غرار رحبعام زئيفي، بل من خلفية داعية للسلام، فهو يعرف نفسه كما يلي «أنا أنتمي الى جيل قدامى النشطاء في معسكر السلام الاسرائيلي، كنت عضوا في الطواقم التأسيسية لمجلس السلام والأمن، روجت لانهاء الاحتلال الاسرائيلي ولانسحابنا من الضفة الغربية، وانا اتبنى لواء المساواة الحقيقية والكاملة لكل مواطني اسرائيل، يهودا وعربا». وبالانطلاق من هذه الخلفية يلتقي شلومو غازيت مع مؤتمر هرتسليا ومع توصيات وثيقته.

تفكير سائد هل يمثل هذا النوع من التفكير مجرد ظاهرة في الحياة السياسية، أم هو مناخ اسرائيلي سائد؟ هل هو تيار ينمو في أوساط اليمين فقط، أم هو تيار يتجه نحو التبلور داخل المجتمع كله؟ يجيب على هذا السؤال مئير ستيغليتس ( يديعوت أحررونوت 1 ـ 5 ـ 2001 ) فيقول «يعمل الزمن لصالحهم، ليس بسرعة ولكن بثبات، ويدور الحديث عن القوى المؤيدة لخيار الترانسفير كحل شامل للنزاع الاسرائيلي ـ الفلسطيني، ان مؤيدي الترحيل يتعززون يوما بعد يوم، ومنذ الآن فان مسألة نقل السكان الفلسطينيين غدت جزءا مشروعا من الجدال العام، وستغدو في المرحلة الثانية موضوعا مركزيا في الانتخابات، وانها لمسألة وقت غير بعيد حتى نحظى بمشاهدة اليافطات الكبرى بصيغة: الترحيل الآن وتقديري أن الانفجار الترحيلي متوقع مع نهاية هذا العقد».

هل يشكل هذا التفكير منهجا للخلاص، أم منهجا للتدمير الذاتي ؟ هذا هو السؤال.