سبارتاكوس والبروفيسور تشومسكي

TT

أغلى رأس تم بيعه مؤخرا في السوق الدولي للرقيق هو رأس ميلوشيفيتش الذي ستقبض يوغوسلافيا السابقة مليار ومئتي مليون دولار ثمنا له، وهو ليس رقيقا عاديا انما بمعنى من المعاني تاجر رقيق، فكل من يريد استعباد الآخرين وإذلالهم قد يصير به كما صار بذلك التاجر الذي لعب الورقة العرقية والقومية بامتياز وانتهى شوفينيا كمعظم القوميين الذين لا يطعمون قوميتهم بنزعة انسانية.

ومع موسم محاكمة ميلوشيفيتش لا بد ان نتذكر كتاب البروفيسور نعوم تشومسكي «النزعة الانسانية العسكرية الجديدة» وهو من اهم الكتب التي فضحت الاهداف السرية للتدخل الاميركي في البلقان.

ومن حسن الحظ ان طبعة عربية صدرت حديثا لهذا الكتاب عن دار الآداب وزينها غلاف جندي مدجج بالسلاح من رأسه الى أخمصه، ويحمل بين اسنانه الفولاذية وردة حمراء، وهذا اختيار موفق يدل على المضمون، فتشومسكي المفكر الحر ينتقد في هذا الكتاب الخطير النزعة العدوانية الاميركية الجديدة التي تسربل نفسها بالمبادئ والقيم وتدعي الدفاع عن حقوق الانسان لتغطي على الاهداف السرية الاخرى ومعظهما من النوع غير الشريف واللاانساني.

ان النزعة العدوانية الاميركية برأي تشومسكي لا تختلف عن استبداد أي قوة عظمى في التاريخ، والفرق يكمن في تغليف الممارسات. اما من حيث الجوهر، فالبيت الابيض، و«الكابيتول هول» لا يختلفان عن مؤسسات الامبراطورية الرومانية التي وقعت في عهدها اشهر ثورات العبيد ضد تسلط روما.

وعلى ذكر هؤلاء فإن تشومسكي في آخر حديث له أجراه معه حافظ المرازي لقناة الجزيرة تفضل مشكورا بتسمية الاشياء باسمائها وباعطائنا الاسم الحقيقي الذي نستحقه في تبعيتنا لسياسة بلاده، واطاعة وتبرير كل ما يصدر عنها.

وبدأت اللحظة الدرامية في ذلك الحديث التلفزيوني حين سأله المحاور العربي كيف نستطيع ونحن الضعفاء ـ لم يقل مذلون مهانون ـ ان نقاوم قوة عسكرية ضخمة كالولايات المتحدة؟ وعندها قال البروفيسور تشومسكي: هذا هو حال العبيد دائما على مدار التاريخ. أي انه كتب عليهم ان يقاوموا قوة اكبر منهم لينالوا الحرية التي يطالبون بها.

وكنا نعرف كمفكرين وسياسيين اننا عبيد العصور الحديثة، نحن وشعوب البلقان ودول العالم الثالث لكن، وفي كل الاحوال شكرا للبروفيسور على تذكيرنا بوضعنا وحقيقتنا، فبعض وسائل اعلامنا تصور علاقتنا مع بلاده وكأنها حلف او شراكة متساوية! متناسية ان التحالف والتشارك يقومان بين متساويين في القيمة والقوة لا بين اسياد تأمر وعبيد تطيع.

وعودة الى كتاب تشومسكي عن البلقان فإن المؤلف يكشف فيه وبذكاء بارع، ونادر المثال كيف تسلح «التدخلية الدولية الجديدة» قبل كل تحرك نفسها بتأييد الباحثين والمفكرين والاكاديميين، والقانونيين الذين يبررون دائما استخدام القوة من قبل الدول التي يسمونها «متنورة» ضد الآخرين «المعتمين»، فالمسار الجديد للتاريخ اقنع كل هذه الفئات بان تدخلها وعسفها هو بشكل من الاشكال رسالة سماوية لتحرير العبيد والمستضعفين وهو ذات الهدف المعلن الذي حرك الجيوش الاستعمارية منذ فجر التاريخ، المكتوب والشفاهي، وكان الهدف الحقيقي هو النهب الاقتصادي واستغلال الثروات.

وتتبنى الانتلجنسيا الغربية بحسب تشومسكي نظرية جديدة اسمها «الاعراف البازغة» Norms Emerging. وبموجب هذه النظرية يعود الغرب عمليا الى مساره التقليدي القديم متنكرا لكل القيم والمبادئ الانسانية التي حمل اثناء حقب الحرب الباردة راية الدفاع عنها.

ويستعين تشومسكي بمقدمة مزرعة الحيوان لجورج اورويل ليدلل على كيفية طمس الحقائق والتعتيم على كافة الافكار المزعجة باسلوب رقابة طوعي يغرسه النظام التربوي المؤدلج في نفوس الناس بحذق شديد ليخفي النزعات الاستبدادية غير المبررة تحت أي شعار. والفرق بين عبيد روما وعبيد واشنطن انهم لا يجلدوننا في الساحات العامة هذه الايام ولا يطلبون منا ان نصارع الحيوانات المتوحشة في حلبات المصارعة لقناعتهم ـ ربما ـ بانهم اكثر توحشا من أي وحش، لكن هات من يقنعنا باننا بحاجة الى استعادة روح سبارتاكوس لنقاتل بكل ضراوة الكرامة البشرية والكبرياء الانساني لنتحرر او نموت، فالحياة لا معنى لها ولا طعم من دون تلك الفاتنة الاسطورية التي يسمونها.. حرية.