أيام فاتت

TT

تشكل نوادر الحمقى والمغفلين فصلا رائعا من فصول الأدب العربي. كانوا، جزاهم الله خيرا، صادقين مع انفسهم لا يترددون في ذكر حماقاتهم. لا نفعل ذلك الآن، ربما لأن اصحاب الحماقات والغفلات في زماننا هذا اصبحوا أولياءنا وأسيادنا. ومع ذلك فمن حين لآخر ومن هنا أو هناك، يظهر واحد بين جمهورنا يكسب لنفسه شهرة خاصة في الحمق أو التحامق. كان من هؤلاء السيد عبد الله الحموش، المعلم في احدى مدارس الاعظمية ببغداد. اما كيف جاز لأحمق مشهور ان يصبح معلما للأولاد فهو سؤال اتركه لذهن القارئ. ولا اريد ان ازعل مرة أخرى صديقنا عبد الله بوعلامة الذي عاتبني على قسوة كلامي عن المعلمين. يكفيني ان أقول ان وجود عبد الله الحموش معلما في الاعظمية ربما يفسر لنا كثرة الحمقى الذين انحدروا من الاعظمية وانضموا الى حركة الضباط الاحرار في ما بعد.

تروى عن هذا المعلم الفاضل قفشات كثيرة. يقال انه عندما تبلغ بترفيعه وزيادة راتبه، اعتبرها اهانة لمقامه وذهب لمقابلة مدير المعارف فورا ليعترض على الزيادة قائلا انه ليس بالفقير المعوز ليحتاج الى زيادة. قال: «يعني شنو؟ تفتكرون اني واحد مكدي فقير؟».

كان من المعتاد لعبد الله الحموش ان يقضي جل وقته في صالون حلاقة السيد عيسى في محلة النصة، وصالونات الحلاقة في العراق من افضل الاماكن الصالحة لقضاء الوقت والسمر مع الزبائن، بعيدا عن اسماع وكلاء المخابرات واعين الضباط الاحرار. كان جالسا ذات يوم عندما لاحظ احد الزبائن يضع نظارة سوداء على عينيه. استغرب من وجودها واستعمالها داخل دكان مظلم. لم يتمالك نفسه فكلم الرجل في الأخير:

ـ «أخي انت ليش لابس هالمناظر السودة هنا؟ هذي مناظر للشمس وهنا ماكو أي شمس».

لم يجب عليه الرجل ولا بادر الى نزع النظارة عن عينيه، ولكن عبد الله الحموش ظل متضايقا من الأمر، وكأنه هو الذي كان يلبس النظارة. فلم تمر غير دقائق قليلة حتى اعاد الكرة وانتقد الزبون على استعمال نظارته السوداء، وتكرر السؤال والانتقاد حتى انتهز المزين السيد عيسى فرصة دخول زبون جديد وخروج آخر من الدكان فهمس في اذن المعلم حموش قائلا: «استاذ انت ليش تلح على الرجل؟ هذا الرجل يلبس هالمناظر لأن عينه اليمنى عورة ويريد يستر عليها».

ادرك المعلم القديم خطأه وعقد العزم على تلافي الأمر والاعتذار للرجل. جلس ينتظر حتى حانت فرصة أخرى فقام من مكانه وتوجه اليه وكلمه على مسمع من سائر الحاضرين. اعتذر منه بكل اخلاص وتواضع وقال:

«أخي اني آسف ضايقتك بكلامي، والله انا ما كنت اعرف انت اعور. سامحني، لكن اريد اقول لك ما دام عينك اليمنى بس هي السقط، انت ليش تغطي العين الصحيحة ايضا؟ استعمل عدسة سودة للعين العورة بس. وخلي الناس يشوفون عينك الصحيحة. كلام صحيح أو لا؟».