أحاديث الإسكندرية

TT

شاركت في مؤتمر عقده في الاسكندرية معهد السلام النابع من حركة سوزان مبارك الدولية للسلام لمناقشة الحوار بين الشعوب والحضارات بحضور عدد من الشخصيات المصرية والعربية والأوروبية. وخلال ثلاثة أيام جرت أحاديث شيقة ومتسمة بالتفاؤل والتصميم على تحويل هذا التفاؤل إلى واقع ملموس في المجالات الثقافية والمعرفية رغم أن بعض الأوضاع في العالم يثير القلق، واتفق الجميع على ضرورة معالجتها. وكان بين الحضور الأمير الحسن بن طلال الذي يرأس مؤسسة نشيطة للفكر في عمان، وقد التقينا في حوار عام حول مبادرة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي للبحر المتوسط التي انضمت إليها إيطاليا وإسبانيا، والتي ما زال الكثير من جوانبها يحتاج إلى إيضاح، خاصة في ما يتعلق بصلتها مثلاً بمسار برشلونة وكيفية التنسيق بين الفكرتين الايجابيتين، وكيفية التغلب على العقبة التي يشكلها استمرار النزاع العربي ـ الاسرائيلي. وقد جاءت بعض الإجابات من شخصيتين فرنسيتين شاركتا في النقاش، ولكن بقيت بعض الأسئلة الهامة على ضوء أمرين زامنا اللقاء، أولهما إحكام الحصار الإسرائيلي اللا إنساني ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وتناقض تلك الممارسات الهمجية العدوانية الإجرامية مع فكرة أساسية من المشروع الفرنسي وهي التقارب عن طريق مشروعات مشتركة في ما يشبه المناداة بالتطبيع كطريق للتسوية، أما الأمر الثاني فهو الأزمة التي نشبت حول قرار للبرلمان الأوروبي كان من المتصور أن تحاصر في وقت مبكر وتعالج بطريقة أقل انفعالاً مثلما عالجنا ـ بحزم وهدوء ـ قراراً سخيفاً أصدره مجلس النواب الأمريكي مقترناً بتهديد ملموس.

المهم أنه بينما كانت النقاشات العميقة الهادئة الجادة تجري في الإسكندرية بروح إيجابية، كانت إسرائيل تصعد من عدوانها وعقوباتها الجماعية للأبرياء التي تدينها كل الشرائع والقوانين، وتمنع عن المواطنين الأبرياء وسائل الأكل والعلاج والنور والتدفئة والتحرك، وترسل جماعات من الزبانية تقتل الفلسطينيين بالتعاون مع الطائرات والمدافع تنشر الذعر والدمار بين الرجال والشيوخ والنساء والأطفال. ولقد أدى هذا الحصار المحكم إلى تصرفات من جانب بعض الأشخاص اتسمت أحياناً بالرعونة حاول البعض استغلالها للوقيعة بين الأشقاء، بخاصة الذين يبذلون الجهد الحثيث لوضع حد لهذه المأساة. ونحمد الله أنه أمكن بالحكمة والهدوء تجنب مزالق خطيرة أرجو أن نكون قد تجاوزناها نهائياً بأن يقوم المجتمع الدولي الذي يتشدق في موضع وغير موضع بحقوق الإنسان ـ باتخاذ ما يلزم من الإجراءات الرادعة أو على الأقل المصححة لأوضاع مأساوية تخلقها إسرائيل، منتهزة فرصة انقسامات أكرر أنه ما كان يجوز أن تقع تحت أي ظرف من الظروف وبأية حجة من الحجج، فالشعب الفلسطيني أهم من فتح وحماس، والمصير الفلسطيني أهم من أطماع صغيرة ترفض التعددية وتتمسك بأوضاع عبر الشعب الفلسطيني عن رأيه فيها بديموقراطية وحرية. أما الدول التي أنعمت على نفسها بأوسمة الديموقراطية التي ليست كلها ذهبا، بل فيها من الصفيح الكثير، فسوف تتحمل هي الأخرى مسؤولية كبيرة في ما يجري، إذ أنها بالموافقة والاشتراك في حصار الشعب الفلسطيني، لأن خياره لم يعجبها، قد خلقت الظروف التي أوصلت إلى ما نحن فيه.

وبينما أكتب هذا المقال، ما زال مجلس الأمن عاجزاً في ما يبدو عن اتخاذ قرار، لأن قوى معينة نعرفها ولعل قوى أخرى لا نعرفها قد انضمت لها، تريد أن توازن بين الفعل ورد الفعل، تخلط بين العدوان والاحتلال والمقاومة. وقد رأينا كيف تسارع أعضاء مجلس الأمن الى استصدار قرارات بتوقيع عقوبات على أفراد وعلى دول وتشكيل محاكم دولية، فإذا تعلق الأمر بإسرائيل فإنها تجد دائماً من يحميها ويبرر لها جرائمها، وبذلك يشجعها على أن تستمر في غيها الذي ثبت أنه يصل بها إلى طرق مسدودة لن يفتحها إلا إقرارها بالحق والشرعية والقانون واعترافها ـ مثلما تطالب من ارتكبوا الهولوكوست ـ بجرائمها لعل ذلك يصل بها الى التعايش مع جيرانها الذين طرحوا عليها مشروعاً للسلام ـ المبادرة العربية ـ يقوم على أسس واضحة تجمع بين المبادئ والحقائق.

وكما استطاعت الدول الكبرى أن تتجاوز خلافاتها لتتفق في ما أوردته الأنباء على عقوبات إضافية على إيران ليس لها ما يبررها بعد أن كذب تقرير المخابرات الأمريكية ادعاءات استمرارها في برنامج نووي عسكري، فإن الأولى بها أن تلتفت بجدية الى ما تقترفه إسرائيل فتوقع عليها أية عقوبة حتى مجرد ضربة خفيفة على اليد لتثبت أنها جادة في ما تدعيه من حرص على المبادئ التي كنا نناقشها في الإسكندرية ـ أفراداً من مشارب وديانات مختلفة اتفقوا على أن ما يجمعهم يجب أن يتغلب على ما يفرقهم، خاصة إذا اتفقوا منذ البداية على الحق في الاختلاف السلمي بدلاً من الاقتتال، وعلى قبول الآخر بروح سمحة بدلاً من التعالي عليه والنظر اليه من علِ.

وفي هذا المقام ـ مع اعتذاري للانتقال من موضوع الى موضوع ـ فإن هناك أموراً أخرى مقلقة تشير إلى حقيقة أن العملة زادت من قوة التأثير المتبادل بين الدول والشعوب. فالأزمة الاقتصادية التي يبدو أنها قادمة بدأت في ما يبدو لي بانهيار سوق الرهونات بغير ضمانات في الولايات المتحدة ثم انعكاساتها على أنحاء أخرى من العالم، وتأثيراتها على البورصات في العالم اقتراناً بظروف اقتصادية لست خبيراً بها ولكننا نرى ونسمع كل يوم عن تداعياتها، سواء في سوق البترول أو في البورصات، وما يثيره كل ذلك من مخاوف وقلق. ولست أبالغ إذا قلت إن الولايات المتحدة الأمريكية تتحمل المسؤولية الأعظم في هذا الشأن كما تتحمل المسؤولية الكبيرة عن تقاعسها عن اتخاذ المواقف الصحيحة في العلاقات الدولية وعن معالجة المشكلات السياسية بأسلوب يساهم في خلق حالة من الاستقرار، وخاصة في المناطق الحساسة فينعكس بالإيجاب على ميادين أخرى.

لا أقول هذا عن رغبة في انتقاد الولايات المتحدة لمجرد الانتقاد، فهي قد وصلت الى درجة من النفوذ لا مثيل لها ولا سابق لها، وهي تدعي لنفسها حق القيادة والريادة، ولعلها لا تدرك أن ذلك يضع عليها مسؤوليات مضاعفة لا يبدو أنها على استعداد لممارستها بأسلوب يحقق توازناً للمصالح يضمن الاستقرار الذي يقوم على أسس سوية ويجنب ـ ربما ـ ضرورة اللجوء الى الأساطيل والقاذفات.

لقد أخذني الحديث من موضوع الى آخر، ولكني أشعر أنها على اختلافها لا تخرج عن كونها جزءاً من جهد للبحث بين السحب عن شعاع شمس قد ينير بعض الظلام، ويتيح التمسك بأهداب أمل يبدو كل يوم أكثر تهافتاً إزاء إنسانية تنسى الإنسانية، وعدالة تخنقها سلاسل الظلم والبغي، وسلام تطارده الذئاب. وتنهش لحمه الضباع.