رؤية المستر وايت

TT

هناك المنجّمون، وهناك أصحاب الرؤية، وهناك الفشارون، وهناك قراء الطالع، ونحن لا ننتبه لأصحاب الرؤيا لأنهم ينظرون الى ما حولهم ولا يضربون في الغيب. والرؤيا هي الواقعية، لا الخيال ولا التخيل، وهي قائمة على المنطق وليس على ما يسمى في أرضنا اليوم، التحليل. ونحن الأمة الوحيدة التي فيها «محللون سياسيون» أكثر مما فيها من مشاهدين مساكين قدرهم أنهم يعبرون هذه الأرض في عصر الفجور والزور ولا غالب إلا الله. أعود بكم غالباً الى اي. بي وايت وغيره من كتَّاب «النيويوركر». وقد وقعت قبل أيام على مقال وضعه هذا البحاثة الساحر الأسلوب في عام 1960، أي قبل 48 عاماً. فلنقرأ هذه الرؤية.

«التغير الهادئ الذي يطرأ على نيويورك والذي يفكر فيه الجميع من دون أن يتحدثوا عنه، هو أن هذه المدينة أصبحت للمرة الأولى في التاريخ عرضة للتدمير. إن سرباً من الطائرات الصغيرة التي لا يزيد حجمها على حجم طيور الأوز، قادر على تدمير حلم هذه المدينة، أن يحرق الأبراج ويدمر الجسور ويحوِّل أنفاق القطارات الى أنفاق للموت، ويحوِّل الملايين الى رماد. إن الخطر المحدق بنيويورك اليوم هو خطر الطائرات النفاثة المحلقة فوقها باستمرار. «على جميع سكان هذه المدينة أن يعيشوا مع خطر الإبادة، وهذه الحقيقة مركزة في نيويورك أكثر من سواها لأنها مدينة مكثفة أكثر من سواها. ومن بين جميع الأهداف المحتملة فأن لنيويورك أولوية في الخطر. ففي عقل اي حالم مريض، تتمتع نيويورك بجاذبية أكثر من سواها، وسحر لا يقاوم!». فلنعد قراءة هذه الرؤية ونتذكر أنه كان عمرها 42 عاماً العام 2001. وقد ذهبت مرة واحدة الى مطعم البرج التجاري وكان أكثر ما أرعبني أن الطائرات الصغيرة تحلق تحتنا لا فوقنا! وقد حاولت «القاعدة» تدمير البرج أولاً «من تحت»، فلما أخفقت رأت أن التدمير من فوق سوف يكون أسهل وأسرع وأكثر دمارا. لا بد أن تصح رؤية وايت.

تطلع وايت في مدينته فرأى سباقاً حولها: من ناحية «البرلمان العالمي» القائم في الأمم المتحدة، ومن ناحية ما سماه بالتحديد «الطائرات المدمَّرة»: «هذه المدينة تمثل المعضلة الكونية والحل الشامل. هذا الخليط من الزجاج والفولاذ هو في نهاية المطاف المثال الكامل للاعنف والأخوة البشرية، وفي الوقت نفسه هو الهدف السهل الذي يذهب لملاقاة الطائرات في منتصف الطريق. مدينة تضم جميع الشعوب وجميع الأمم، عاصمة كل شيء، ومركز برلمان البشرية حيث تناقش القضية الرئيسية: كيف نردع الطائرات المحتملة».

رأى وايت شجرة عتيقة في منطقة مهملة من الجادة السابعة. وقال في نفسه، كم تشبه المدينة. إنها تحاول مصارعة الإسمنت وإبقاء خضرتها. لكن هاجسه لم يتغير: «عندما أتطلع إليها أشعر بقشعريرة الطائرات. لا بدَّ لهذه الشجرة أن تبقى، رمزاً للمدينة والحياة».