الأزمة الاقتصادية.. نتاج (انعدام الرؤية بعيدة المدى)

TT

«ثمة ظاهرة تشير الى تحوِّل مراكز القوى والى التبدلات التدريجية في الأنظمة العالمية: من المحيط الأطلسي الى المحيط الهادئ».. هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق.

«انتهى عصر الدولار، وان الاقتصادين: الأمريكي والبريطاني لن يستطيعا تجنب ركود محتم».. جورج سوروس الملياردير العالمي المعروف.

وقد طرحت هذه الأفكار والكلمات في بداية افتتاح منتدى دافوس الاقتصادي يوم الأربعاء الماضي.. وهذا المنتدى إنما هو كذلك ـ أي اقتصادي عالمي ـ: باسمه ومضمونه وطبيعته وسوابقه وتمثيله المتنوع الضخم، فقد شارك فيه 2500 من النخب الاقتصادية والمالية والسياسية وصناع القرار وفدوا إليه من العالم كله. وقد تزامن انعقاده في هذا العام مع (الأزمة الاقتصادية) التي تواجهها دول عديدة، ولا سيما دولة أكبر اقتصاد في العالم، وهي الولايات المتحدة الأمريكية التي يتأثر بحركة اقتصادها: كل اقتصادات العالم تقريبا: نظرا لضخامة الاقتصاد الأمريكي، وتشابكه الرصيدي والوظيفي مع الحركة المالية والتجارية والاستثمارية والاقتصادية ـ بوجه عام ـ التي تتحرك عبر قارات الكوكب.

العالم ـ من ثم ـ أمام أزمة.. ولقد ذهب الخبراء مذاهب شتى في تحليلها وتفسيرها. فهناك من ردها الى بطء النمو في الاقتصاد الأمريكي وضعف الدولار.. ومنهم من ردها الى (الغرق) في السياسة والحروب التي صرفت التفكير عن الاستغراق في الشأن الاقتصادي استغراقا يستنبط الحلول والبدائل في وقت مبكر، أي قبل ان تتراكم الأزمة وتتعقد.. ومنهم.. ومنهم

وقد تصح هذه الأسباب، وتصح عشرات مثلها. لكن أزمة الأزمات ـ في تقديرنا ـ هي ان تفكير القادة والمخططين (صغير) صغرا مركبا: صغير لذاته، وصغير لأنه (غارق) في الفرعيات والتفاصيل، أو هو (تفكير ذري) وفق تعبير المستشرق (جب)، بمعنى انه مفتت، أو ذرات مفردة لا يربطها سياق منهجي كلي.. والعجيب ان هذا التفكير الصغير أو الذري يسود في حقبة من الزمن شهدت أعلى رقم في ترديد كلمة (استراتيجية)، فهي تتردد ملايين المرات على ألسنة سكان الكوكب، ومنهم من يرددها، ولا يعرف معناها إلا كما تعرف السلحفاة ـ مثلا ـ سرعة السنة الضوئية!. ان التفكير الذري أو الصغير أو المحدود والمفتت حمل أقواما، بل حمل نفرا من العلماء في أواخر الأربعينات من القرن الميلادي الماضي وهم قلة لحسن الحظ ـ بأن يجزموا بأن التقدم العلمي قد بلغ سقفه الأعلى الخاتم!! وان انتقال (الصورة التلفزيونية) عبر الأجواء أمر مستحيل. فمكث العلم غير بعيد فجعل ما لم يكن يُتصور وقوعه: واقعا علميا حيا: يلمس ويرى.

ما سبب هذه (الورطات التطوعية)؟!

هناك سببان مركبان:

أ ـ (فقدان الرؤية الفكرية والعلمية الواضحة وبعيدة المدى).

ب ـ النفي الجريء ـ والوهمي ـ لاحتمالات تعززها القرائن، أو ـ على الأقل ـ، ليس هناك ما يضطر المرء العاقل لاستبعادها.

ويمكن ان يكتنف خطأ (نفي التوقعات القوية القرائن) تصورات ومفاهيم السياسيين والاستراتيجيين ـ في عصرنا وعالمنا ـ فتنزلق البشرية ـ من ثم ـ الى مستقبل مرعب ومثقل بمتاعب وأزمات وزلازل: أكثر عتيا، وأشد وطأة، وأفدح آلاما: مما تعانيه اليوم. ويستطيع ـ من هو غير قادر على الرؤية البعيدة المدى للمستقبل ـ: أن يعتبر بما وقع في التاريخ الكئيب القريب، أي في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي فلم يكن متوقعا: أن تنفجر الحرب العالمية الأولى، وأن يكون من آثارها: ملايين القتلى. ودمار رهيب في العمران. وتبدل عميق في موازين القوى.. ولكن الحرب انفجرت.

ولم يكن متوقعا: ان تظهر الشيوعية بهذا الحجم والوزن والهيمنة.. ولكنها ظهرت وتمكنت. ولم يكن متوقعا: أن تتكهرب أوربا وتموج أرضها بالنازية والفاشية على النحو الذي كان.. ولكن ذلك حصل. ولم يكن متوقعا: ان تندلع الحرب العالمية الثانية في تلك الصورة البائسة الرجيمة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا. ما سبب هذا الانزلاق الخطر الى المصائر البائسة؟

نعيد التوكيد على ان وراء ذلك سببين رئيسين:

1 ـ فقدان (الرؤية الواضحة بعيدة المدى).

2 ـ استبعاد ما يمكن ان يقع، أو ضعف الاحساس بما يمكن ان يقع، وهو ضعف يؤدي الى عدم الاستعداد في التخطيط والعمل، والتكاسل عن التأهب الواجب المفضي الى استنباط الحلول والتفنن في البدائل.

وإذا كانت البشرية تريد ان تحيا ولا تهلك، وان تأمن ولا تخاف، وان تسعد ولا تشقى، وان تتيح للأجيال القادمة فرصا في الحياة أفضل وأرطب وأوضأ. فان عليها:

أ ـ ان تكبّر مخها وتفكيرها، وان تمد رؤاها الى أبعد مدى مستطاع.. ولئن تعذر ذلك على مجموعها، فلا أقل من ان ينهض بهذه المهمة المخططون الاستراتيجيون فيها من الساسة وخبراء الاقتصاد والمال والتعليم والاجتماع والبيئة والأمن.. الى آخر التخصصات التي لا تتكون رؤية صحيحة وموثوقة بدونها.

ب ـ ثم على هذه النخب: احصاء الأزمات في اجندة: احصاء يرتبها وفق أولوياتها ومخاطرها. وإذا مارسنا حقنا في رصد هذه الأزمات وترتيبها ـ وفق المعيارين الآنفين ـ قلنا: ان اعتاها وأولها وأشدها خطرا: (أزمات أربع) هي: الأزمة الاقتصادية.. وأزمة البطالة (وهي نتاج للازمة الاقتصادية وقد افردناها في بند خاص لخطورتها وفداحة آثارها).. والأزمة الثالثة هي أزمة أمنية.. اما الأزمة الرابعة فهي أزمة المناخ الذي منه نستمد اوكسجين الحياة، وفيه نتنفس، ومن اطعمته نأكل. ولنضرب مثلا ـ الآن ـ بالأزمة الاقتصادية. والأزمة ـ في حقيقتها ـ هي أزمة الرأسمالية. ومن هنا عجبنا أشد العجب من مفكر في حجم فرانسيس فوكوياما الذي اصدر كتابا: موضوعه وعنوانه (نهاية التاريخ). فخلاصة الكتاب هي: ان البشرية قد بلغت السقف النهائي الخاتم في الرقي، وهو سقف الديمقراطية و(الرأسمالية). وان كان الرجل قد تراجع ـ بشجاعة محمودة ـ عن الكثير من أفكاره.

نعم.. نعم، الأزمة الاقتصادية الراهنة (نتاج) الأزمة الرأسمالية الكلية ونسارع فنقول ـ بيقين ـ: إننا من أنصار (الاقتصاد الحر)، بيد أن الاقتصاد الحر شيء مختلف عن سفه الرأسمالية المتوحشة وعن غباوتها وقصر نظرها. لماذا نشأت الشيوعية؟.. يمكن اجمال أسباب نشأتها ـ فكرا وتطبيقا ـ في سببين اثنين: استبداد الرأسمالية استبدادا أشاع المظالم وراكمها.. والسبب الثاني (تعفن الضمير الديني)، يضم الى ذلك: انسداد أفق الخيارات الأخرى. خيارات مثل: تعقل الرأسمالية.. وصحوة الضمير الديني وتحرره من خطايا ممالأة الظلم والظالمين: من الرأسماليين والاقطاعيين المسعورين. ومن خصائص تكوين (الرؤية السديدة المنقذة) في هذا الشأن: المزج المنهجي بين عبرة التاريخ، وبين الوقائع الراهنة. ثمة حقيقة موضوعية ـ ها هنا ـ يجب الاعتراف بها حتى من قبل الكارهين ـ بإطلاق ـ لأمريكا. والحقيقة هي: أن الاقتصاد الأمريكي (قائد) للاقتصاد العالمي: بهذه الصورة أو تلك، فإذا ضعف هذا الاقتصاد أو اضطرب، انعكس ذلك على اقتصادات دول العالم، بطريق مباشر أو غير مباشر.. وهذا الأمر ليس جديدا، بل ان واقع تشابك اقتصاد العالم بالاقتصاد الأمريكي: لم يزده إلا قوة وسعة وتجديدا. ففي عام 1929 تزلزل اقتصاد العالم بزلزال هد عافيته هدا شديدا.. ولنصغ ـ بانتباه ـ الى المؤرخ الانجليزي الفطن والأمين (هربرت فيشر) لكي نتعلم منه حقيقة اقتصادية تاريخية تنفعنا نحن البشر في حاضرنا ومستقبلنا. فقد قال في كتابه النفيس ـ تاريخ أوربا في الحديث ـ تحت عنوان: نكبة 1929 الاقتصادية: «وفي الوقت عينه ألمت بجمهورية ألمانيا نكبة اقتصادية قوضت أركانها. وكان فعلها شديدا نظرا لأنها طرأت عقب نزول نوائب قاسية بألمانيا.. وتلى هذه الأزمة صدمة مالية عنيفة في نيويورك عام 1929 فسحبت على الفور الأموال الأمريكية من ألمانيا، فجرّ هذا الأمر أكبر النكبات على الاقتصاد الألماني.. وعندئذ اكتسحت البلاد دعاية بارعة باهرة أخذت تفصح عن ضرورة زعيم منقذ للبلاد. وكان أدولف هتلر يبدو على صفحات هذه الدعاية البارعة كمجاهد مناضل وجندي مقاتل، والمنظم الملهم للحزب النازي المنقذ».. ومن الدروس الواجب تعلمها وهضمها من هذا التاريخ الاقتصادي السياسي المر:

أ ـ ان الاقتصاد العالمي ـ وفي طليعته الاقتصاد الألماني ـ قد تأثر، بعمق فادح ـ بما جرى في بورصة نيويورك عام 1929.

ب ـ ليس الاقتصاد وحده هو الذي تأثر. فقد امتد هذا الأثر الشديد الوقع والضغط الى السياسة لينتهي بتقويض النظام السياسي القائم في ألمانيا تقويضا أدى الى تمكن النازيين ـ بزعامة هتلر ـ من السيطرة على الحكم وسائر مقومات ألمانيا ومصائرها.

ج ـ ان هذا التبذل الجذري في النظام السياسي الألماني قد قاد الى الحرب العالمية الثانية التي هي ـ بشهادة المؤرخين كافة ـ أسوأ وأقبح في التاريخ البشري كله: المكتوب منه وغير المكتوب.