الفضيحة المتأخرة

TT

منذ صغري ويفاعتي كنت أتوسم بنفسي خيراً ـ مثل كل البشر تقريباً في مراحلهم الحياتية الأولى ـ، ومع الوقت اكتشفت أن (العين بصيرة واليد قصيرة)، وان طموحاتي أو أحلامي أو غروري لا تتماشى أبداً مع إمكانياتي وقدراتي الجسمية والعقلية و(الظروفية) كذلك ـ إن جاز التعبير ـ. غير إنني ومع ذلك الاكتشاف المخيب للآمال لم استسلم والقي بعصا التحدي. وقلت بيني وبين نفسي لابد ان اربط حياتي بقضية عظيمة أكرس لها كل طاقاتي المتاحة، فالإنسان يكبر ويرتفع طالما ارتبط بعمل عظيم ونبيل.. فوجدت هناك عدة قضايا عظيمة، تهت في الخيارات بينها ولازلت تائها حتى الآن ولم ارتبط بأية واحدة منها. وعرفت بل واقتنعت وآمنت بأن (الصدق) هو الذي يمنح قيمة ومعنى للحياة، لهذا قررت أن أكون صادقاً مع نفسي أولاً ثم مع الآخرين.. ولم ادر أنني أدخلت نفسي في عش للدبابير بدون أن اشعر. كنت منذ صغري أحس إحساساً غامضاً أنني مختلف عن الآخرين ـ ليس شرطاً للأسوأ أو الأحسن ـ ولكنني مختلف والسلام.. وهذا الإحساس كثيراً ما اقض مضجعي وأصابني بالإحباط، وأورثني العزلة والانطواء والوحدة.. وهذه (الوحدة) هي التي قال عنها (نيتشة): إنها هي التي تقسمنا مع ذواتنا، وترققنا مع الآخرين.. وللدلالة على صدقي مع نفسي أورد لكم هذه الحادثة التي حصلت لي في بدايتي الحياتية، ولم اجن منها غير الفشيلة. ففي يوم من الأيام في الطائف ذهبت مع مجموعة من أقراني في رحلة بريّة، وطلب مني احدهم أن أرافقه على الأقدام لصيد الطيور، فامتثلت لطلبه، كان متسلحاً ببندقية، فيما كنت اعزل إلاّ من قلبي الخفاق، وشاهدنا قبل غروب الشمس بدقائق طيوراً تحط على شجرة آوية لأعشاشها، فتهلل وجه صاحبي، فأخذنا نقترب منها رويداً رويداً وبهدوء، ثم صوب هو بندقيته وقبل أن يطلق رصاصته تناهى لي صوت أذان المغرب من بعيد، ولا أدري كيف أخذتني الشفقة الجياشة نحو تلك الطيور المساكين وكأنهم من عائلتي فما كان مني إلاّ أن اصرخ واصفق بكفوفي فطارت جميعها، وانتبهت إلى أنني قد اقترفت ما لا تحمد عقباه. فهربت وركض خلفي رفيقي الذي استشاط غضباً، وكان اكبر وأقوى وأشجع مني غير أنني كنت أسرع منه، وعندما عجز عن اللحاق بي، صاح عليّ أن أتوقف وإلاّ سوف يطلق عليّ الرصاص، وفعلاً أطلق رصاصة في الهواء للتهويش، (ففرملت) وتسمرت في مكاني من شدة الرعب، وما كان منه إلاّ أن يمسك بيده تلابيب ثوبي ومعها حلقي، ويطبق عليه ويلويه ويشدد عليه الخناق وهو يوجه لي أقذع الشتائم، وبين كل شتيمة وشتيمة يسألني: هل سمعت؟!، وأنا أحاول أن أقول له: نعم سمعت ولكنني لا أستطيع، اخذ يرفعني إلى أعلى ثم يهبد بي للأسفل، وعيناي تكادان تخرجان من محجريهما، وأخيراً وبعد أن كادت روحي تطلع من (خياشيمي) دفشني للخلف فوقعت على ظهري. وقال لي مهدداً وهو واقف على (جثتي): انك والله لو كررت مرة ثانية فعلتك السخيفة هذه، ونكدت علي بتطييرك للطيور، لسوف أمرغ وجهك بالتراب، هل سمعت؟! ولأول مرة أجبته قائلاً: سمعت، سمعت، وذهب ووقفت انفض الغبار عن ثوبي، وأتحسس حلقي لكي أتأكد انه لازال في مكانه، وأخذت بعدها كل ليلة ادهنه وامرخه (بالفكس) لمدة أسبوع كامل. والآن اعتقد أن قضيتي هي قضية (حق الحياة) لكل الكائنات ـ خصوصاً الجميلة منها ـ.

أما صدقي مع نفسي فقد (حققته) في تلك الحادثة، التي دفعت ثمنها (بالعلقة) المشار لها سابقاً، والتي حمدت ربي أنها لم تكن علنية، وليس هناك شهود عليها.. وإلاّ كانت (فضيحة).

[email protected]