الغباء المدني والوجبات العسكرية

TT

يسقط المدنيون في لبنان فقط استكمالا للمشهد. مجرد سوء حظ مزدوج: الأول، بلد الميلاد. الثاني صدفة المرور في مكان كان أحرى بهم أن يتجنبوه. ويسقطون بلا اسماء. لا موقع لهم إلا في الارقام في هذا اللوتو القاني مثل البياض في عيون الوحوش.

اذن، المدنيون، لا علاقة، لأحد بالأمر. الدولة، أو الباقون فيها، تدون الأسماء وتعزي بالضحايا. المعارضة تشتم الدولة على تقصيرها وتعلن، بلسان العماد المفوض التحدث باسم المعارضة الوطنية، ان هذه ليست حكومة غير شرعية بل هي عاجز وعاقر ولا تفك رموز جريمة واحدة. لكن بين عقر الحكومة وخصب المعارضة تقوم حقيقة ثالثة. وهي ان المدنيين يموتون بسبب غبائهم والمرور في الأماكن الخطرة، كالجسور أو المستديرات، أما العسكريون فيقتلون لاسباب معاكسة تماماً: بسبب ذكائهم واصرارهم على المعرفة. لا أحد منهم يتعلم الحكمة التي اطلقها الرئيس اليمني الراحل احمد النعمان، عندما سئل لماذا لا يطلب التحقيق في اغتيال ابنه محمد. قال، لبنان بلد مسكين لا يقوى على احتمال نتائج التحقيق في جريمة سياسية.

لذلك يعتقل القتيل ويبقى القاتل طليقاً. والمتهمون الذين اعتقلتهم الدولة كانوا فقط الجنرالات الأربعة في اغتيال الرئيس الحريري. والمعارضة تطالب «اللجنة الدولية لحقوق الانسان بالعمل على اطلاقهم». والرئيس اميل لحود، من موقعه الجديد كآخر رئيس للجمهورية، لا يكف عن المطالبة بإطلاق رئيس الحرس، الذي لم ينتبه الى انه لا يجوز محو آثار الجريمة قبل وصول المحقق العدلي.

وكلمة «عدلي» ليست من عندي. انها التعبير الذي لا يستخدم في لبنان في مثل هذه الحالات. وهي آخر معالم وجود العدل المفقود، في بلد كان القتل حصة المدنيين فأصبح وجبة عسكرية ايضاً، لا احد يعرف موعدها، وان كانت تتم عادة في الصباح، موعد خروج الضباط من المنازل الى المثاوي.

اعتذر عن مصطلح «وجبة» فهو مستعار وانا لا اتمتع بمثل هذا الابداع. انه المصطلح الذي استخدمه السيد الرئيس صدام عندما كان يعلقهم وجبات وجبات في ساحات بغداد. وكانت الناس تأخذ أكلها معها وتتناول وجبتها تحت الجثث المعلقة، كما روى حسن العلوي.

الوجبة اللبنانية مختلفة عن وجبات العراق في أمر جوهري: هناك في ارض العدالة العراقية، تقوم محاكمة ويقف شهود وتعرض جميع انواع الأدلة، من تاريخ الميلاد الى تاريخ الموتى. في بيروت يقضى بقتل الضباط الشباب من دون الحاجة إلى احكام القضاء النزيه. المشكلة الوحيدة هي في النفقة: وجبة العراق لا تكلف اكثر من حبل يعاد استخدامه بكل ابتهاج، فيما وجبة بيروت تكبد اصحابها مصاريف ونثريات كثيرة. والباقي معروف.

سوف يتهم ميشال عون الحكومة ـ إن لم يكن قد فعل ـ بالجريمة من أجل إحراج المعارضة. والمعارضة كما هو معروف، بالغة الحساسية ولا تطيق الاحراج.