واقع المشروع الأميركي في المنطقة

TT

تتميّز القوى الكبرى عن غيرها بالقدرة على استيعاب الخسائر، وبقدرتها على التعويض عن هذه الخسائر. وبذلك، تغيّر هذه القوى عادة في التكتيك، لكن من دون مسّ جوهر الاستراتيجيّة الكبرى، الأمر الذي قد يؤدّي أحيانا إلى إطلاق أحكام خاطئة.

في هذا الإطار، تختلف قدرة قوّة كبرى ما عن غيرها في القدرة على الاستيعاب، فتسقط نتيجة لذلك. وهي قد تسقط طوعا، كما فعلت الامبراطوريّة البريطانيّة، وبعدها الامبراطوريّة السوفياتيّة. أو قد تسقط عنوة وبالحرب كما سقطت روما، وبعدها الامبراطوريّة العثمانيّة. لكن فرق السقوط السلميّ للامبراطوريّة السوفياتيّة، والسقوط القسريّ العُنفيّ للامبراطوريّة العثمانيّة، قد يعود وبامتياز إلى السلاح النووي بين ايدي المتصارعين الكبار، الامر الذي ابعد شبح الحرب النوويّة الشاملة كما يقول المفكر الاميركي كينيث والتز.

استطاعت اميركا استيعاب هزيمة فيتنام (50 الف قتيل). كما استطاعت استيعاب اليابان الصاعدة بسرعة في الثمانينات كما حال الصين اليوم. إذاً المهمّ هو في القدرة على استيعاب الخسائر، والتأقلم بسرعة. وفي هذا الاطار، قال هنري كيسنجر إن اميركا تربح حروبها بفضل الموارد والقدرات التي لا تنضب، وليس بفضل الاستراتيجيّات المتقدّمة.

قدّر الخبراء الكلفة الماديّة المباشرة لكارثة 11 ايلول بما يُقارب المئة مليار دولار. وحتّى الآن، اصبحت كلفة الحرب على الارهاب تقارب التريليون دولار، ولا تزال اميركا مستمرّة.

اجتاحت اميركا العراق تحت شعار نشر الديموقراطيّة في الشرق الاوسط الجديد. تعثّرت اميركا في بلد الرافدين، وخسرت حتى الآن أكثر من 3000 جنديّ، هذا عدا الخسائر في العتاد والمعنويّات، ولا تزال اميركا مستمرّة. فهل وصلت إلى نقطة الذروة؟ في هذا الاطار، يقول المفكّر الانلكيزي بول كينيدي، إن الامبراطوريّات تقوم على بُعدين مهمّين هما: الثروة والقوّة. الثروة كي تنفق على القوّة، والقوّة كي تحمي الثروة. لكن التآكل بين الاثنتين قد يفضي إلى السقوط. حاليّا، وبطريقة غير مباشرة، تؤمّن الصين الثروة (الديون الاميركيّة عبر شراء السندات) اللازمة لعدوّها المستقبلي الولايات المتحدة الاميركيّة، وذلك عبر حمل احتياط كبير من الدولار الاميركي.

قال مُرشد الثورة الايرانيّة، ان الشرق الأوسط سوف لن يكون كما يريده جورج بوش. فهو سيكون شرق اوسط اسلاميا وبامتياز. كذلك، أكّد المفكّر الاميركي ريتشارد هاس، ان الشرق الاوسط سيكون جديدا مع تأثير اقلّ للامبراطوريّة الاميركيّة. وإذا كان العراق هو سبب الدخول الاميركي إلى المنطقة بهذا الشكل، فإن العراق هو نفسه سيكون سبب الخروج الاميركي من المنطقة ككلّ، وبالتالي تراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط.

فما هو حال الشرق الأوسط اليوم في ظلّ زيارة بوش الاخيرة؟

في العراق، وعت اميركا فعلا محدوديّة استعمال القوّة العسكريّة، كما وعت محدوديّة قدرتها على فرض الحلول. تأقلمت مع الواقع المُستجدّ، وراحت تركّز على العامل الثقافي عبر القبائل. وبدل ان تحاول تدمير المقاومة العراقيّة، كما يفعل إرهابيّو تنظيم القاعدة، ابتكرت مقاربة جديدة تقوم على دعم القبائل، شرط ان تقاتل هذه القاعدة. وبذلك، بدا العراق اكثر استقرارا. وبذلك، تكون الولايات المتحدة قد دخلت العراق كحليفة غير مباشرة للشيعة، لتضرب النظام البعثيّ السنيّ. وبعد تعثّرها، وبالتالي نجاحها الأخير، تكون اميركا اليوم حليفة للسنّة، تستعملهم للتوازن مع الشيعة، وبالتالي التوازن مع ايران.

وإذا كان عام 2007 هو عام الصحوة السنيّة في الانبار. فإن عام 2008 سيكون عام تثبيت الوضع في العراق، وبالتالي الانطلاق إلى مشاريع اكبر بكثير من منطقة الشرق الاوسط. وإلا فما معنى الحملة العسكريّة الاميركيّة الاخيرة في جنوبيّ بغداد (منطقة عرب جبّور) حيث استعملت اميركا القاذفة ب ـ 1، كما القت ما يُقارب الـ40000 طن من القذائف في اقلّ من 10 دقائق على 40 هدفا؟

فهل ان هذه العمليّة سببها زيارة بوش للمنطقة؟ ربما. لكنها عمليّة كبيرة، تهدف إلى توجيه رسائل بكلّ الاتجاهات، للقاعدة كما لايران، الأمر الذي يعكس اهميّة العراق للاستراتيجيّة الكبرى الاميركيّة.

وإذا درسنا مسار رحلة بوش إلى المنطقة وركّزنا على مضمون خطابه، كما على الحوادث التي تزامنت مع هذه الزيارة فقد يمكننا استنتاج الآتي:

من تل ابيب، رام الله، الكويت، البحرين، الامارات، وحتى السعوديّة.. قد يمكن القول ان هذا المسار يُشكّل محورا اساسيّا في النظام الاقليمي.

إذا حلّلنا مضمون الخطاب، وبغض النظر عن اهميّة قيام الدولة الفلسطينيّة التي دونها عقبات ولا سيما في الجهّة الفلسطينيّة، فإن تحديد العدو الآخر حسب بوش، يقوم على محور سورية وايران، وما تدعمانه من منظّمات كحزب الله وحماس.

إذا اعتبرنا ان العراق كان ولا يزال يُشكّل مركز ثقل المنطقة، ومنه يمكن الانتقال بكلّ الاتجاهات. وبما ان العراق القديم قد سقط، ولم يعد يُشكّل عامل التوازن الاقليمي التقليدي، خاصة في منطقة الخليج. فإن الصورة المستقبليّة للعراق ـ وبعد ان أمّنت اميركا السنّة كحليف هناك ـ سوف تكون فدراليّة، بحيث تكون اميركا مع وجودها العسكريّ هي عامل التوازن الوحيد والضامن لامن المنطقة. وهذا امر سيقلق ايران وسورية، لكن لماذا؟

سوف تبقى اميركا جارة ايران في المدى المنظور في اطار استراتيجيّة الاحتواء. وكي تنزع اميركا ورقة قويّة من يد ايران اصدرت التقرير الاستخباراتي حول النووي الايراني، الامر الذي جعل دخول وكالة الطاقة الذريّة على الخطّ امرا سهلا، مع إبقاء الخيار العسكريّ ممكنا.

أما بالنسبة الى سورية، فإنها واقعة بين المطرقة الاميركيّة والسندان الاسرائيلي. وهي تعي، وبعكس ايران، انها سوف تكون في منطقة النفوذ الاميركيّة في المدى المنظور. من هنا قلقها، ومن هنا تعطيلها الوضع في لبنان، ومن هنا رغبتها في معرفة دورها المستقبلي، ومصير الجولان، وكذلك الامر المحكمة الدوليّة. اذاً يريد النظام في سورية ان يطمئن الى مستقبله، هذا عدا توصيف الدور ومنطقة النفوذ.

إذاً هناك عودة قويّة للجيوبوليتيك في المنطقة وعلى حساب الايديولوجيا. وفي هذا الاطار، قد يُمكن القول وبالمعنى الجيوبوليتكي، ان وضع العراق قد تجاوزته الادارة الاميركيّة، هذا عدا حتميّة تراجع القضيّة الفلسطينيّة في سلّم الاولويّات، فالادارة اليوم تتعهّد الوضع في العراق، لكن عينها على اماكن اخرى. لذلك هناك ضرورة لرصد مؤشرات ما بعد العراق، ورصد مواقع ومناطق تظهّر هذه المؤشرات. وفي هذا الاطار، قد ينصح البعض بمراقبة ما يجري في باكستان، ففيها ملاذ قيادات القاعدة، وفيها السلاح النووي الجاهز للاستعمال، كما ان الفوضى والعنف السياسيّ هما سمة المرحلة الحاليّة.

* باحث أكاديمي وعميد متقاعد في الجيش اللبناني