مستقبل العربية

TT

كان مستقبل اللغة العربية هو محور المؤتمر الذي نظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث، الأسبوع الماضي، في أبوظبي، وشارك فيه ثلة من المختصين اللغويين من أنحاء عدة.

المشاركون توزعوا إلى فريقين ـ مثلما المؤتمرات الشبيهة دوما ـ فريق فقه اللغة وفريق علم اللغة. الفقهاء اللغويون توصيفيون في معالجتهم للمسائل اللغوية، بينما يميل علماء اللغة إلى وصفها كظاهرة طبيعية، وكمخلوق يعد جزءاً من بدن الإنسان، يتطور بتطوره، وينمو بنموه، ويقوى بقوته.

العربية في خطر، هكذا يصيح التوصيفيون، بينما يتنادى الوصفيون إلى التعامل مع متغيرات عولماتية لا تصيب الناطقين بالضاد وحدهم.

أسئلة كثيرة طرحت في هذا المؤتمر، كان الغالب فيها حول «غزو» المفردات الأجنبية للغة العربية؛ وبالذات في مجالات العلوم والتكنولوجيا، فما على القارئ سوى أن يلتفت حوله ويحاول تسمية بعض مما يحيط به من أجهزة كهربائية وتقنية ويلفظها ليدرك حجم المفردات التي تمت استعارتها من لغات أخرى هي في الغالب لغات العالم المصنع لهذه الأجهزة.

هناك إجماع على عدم وجود لغة «نقية»، فكل لغات البشر استعارت من بعضها بعضا، لو استمع أحدنا إلى نشرة أخبار بالفارسية أو بالتركية لسمع الكم الهائل من العبارات والمفردات العربية. وفي اللهجة الخليجية كلمات كثيرة من أصول فارسية وهندية وتركية. واستعارت عربية المغرب العربي الكثير من الفرنسية. والإسبانية تعج بآلاف الكلمات العربية التي «اخترقت» هذه اللغة. وفي القرآن الكريم أمثلة عديدة من الكلمات التي أصولها ليست عربية مثل صراط وزخرف وإستبرق وغيرها.

إذن، لا توجد لغة «نقية»، لكن السؤال هو: ما العدد المسموح باستعارته للغة ما قبل أن نعلق جرس الخطر على تلك اللغة؟ وهو السؤال الذي طرح في المؤتمر وبقي بلا إجابة.

طبعا، كعادة المؤتمرات العربية ـ لم يخل المؤتمر من النياح والصياح على لغتنا الجميلة التي تتعرض «للغزو الثقافي والفكري وغيره»، وهذا نياح مشروع، وصياح مقبول، شريطة أن نفهم حقائق علمية حول اللغة:

- اللغة لا تضعف ولا تموت، الناطقون بها هم من يصيبهم الوهن والاندثار.

ـ يمكن تشبيه اللغة بجزء من بدن الإنسان، كعضلة في الجسد، تنشط هذه العضلة بتحريك وتفعيل الإنسان نفسه لهذه العضلة، وتضعف وترتخي بارتخاء حركة الإنسان.

ـ إن كنت تستورد ما تحتاج، فالأغلب أن تستورد اسم بضاعتك معها جاهزا، ولكن إن صنعت بضاعتك بنفسك، فالمنطق يفترض أن تخلق لما صنعت اسما.

ـ ما تتعرض له العربية من ضعف، هو انعكاس لضعف الناطقين بها.

ـ هناك فرق بين الاعتزاز اللغوي والتعصب اللغوي.

لعل من أجمل الأوراق التي قدمت في المؤتمر ورقة عن اللغويات الحاسوبية حيث ناقش الباحث أهمية هذا العلم في عالم اليوم، وفي تنشيط اللغة وتقويتها، وخلص ـ بالدليل ـ إلى أن العربية أكثر اللغات سهولة في البرمجة نتيجة للطبيعة الجبرية في تركيب جذرها الثلاثي والرباعي. التركيز على اللغويات الحاسوبية ثورة في لغات دول متقدمة عديدة، ولكن حين نعرف أن نسبة من يستخدم الحاسوب في عالمنا العربي لا تتجاوز الـ1%، فإن التبشير بهذا العلم في هذه المرحلة يصبح «كالأذان في خرابة» كما يقول المثل.

عجت ردهات المؤتمر ـ كالعادة ـ بالمناضلين اللغويين الذين غصت خطبهم بالرنين والتباكي والحنين على لغة قريش وهذيل وتميم، وخلطوا «شعبان في رمضان»، ونسوا الفرق بين المؤتمرات العلمية، والملتقيات الحزبية، فكانوا خيرَ دليلٍ على أن سبب ضعف العربية هم الناطقون بها.

العربية في خطر، هذا صحيح، ولكن ليس بسبب اللغة نفسها، ولكن الخطر عليها بسبب أهلها، فلعل مِنَ الأسلم أن نقول إن الناطقين بالعربية في خطر!!