الكذب مش خطية!

TT

ليس مهما أن يكون كلامك كذبا، الأهم هو ألا يعرف من يسمعك بأنه كذب. ولكي يصبح الكذب حقيقة، تحتاج فقط إلى ألسنة تلهج بكلامك وإلى دراويش يرددونه ويكررونه من منافذ إعلامية كبرى.

«تعا ولا تيجي، واكذب علي، الكذبة مش خطية». مقطع من أغنية لفيروز يعبر عن رؤية العرب اليوم لأنفسهم وللعالم وللكثير من القضايا، من لبنان إلى غزة إلى زيارة الرئيس الأميركي جورج بوش للمنطقة، إلى زيارات أمين جامعة الدول العربية عمرو موسى المتكررة إلى لبنان، وموقف اللبنانيين من هذه الزيارات.

«تعا ولا تيجي، واكذب علي، الكذبة مش خطية». فيروز اليوم في قلب الحدث، من خلال الجدل الدائر عن زيارتها إلى دمشق، لذا لا أرى غضاضة في إقحام أغانيها في أحداثنا اليومية.

جوهر لبنان، وربما جوهر غزة، وأصل الحكاية في الشؤون الداخلية لكثير من البلدان العربية، تجده في الفيلم ذاته الذي جاءت فيه الأغنية، فيلم الرحابنة الغنائي «بياع الخواتم» والذي أتمنى أن تتاح للبنانيين من الجيل الجديد مشاهدته. بتبسيط شديد، يحكي الفيلم عن قرية اخترع مختارها (عمدة القرية) عدوا وهميا سماه «راجح».. شخص يأتي من الجبل ومن الأحراش ليهدد القرية، ولا يستطيع التصدي له إلا المختار «الفتوة القوي». كذبة اخترعها المختار وصدقتها القرية. سرق فضلو وعيد (وهما من أبناء القرية) ماعز الناس وألقيا بالتهمة على راجح، سرقا أموال العرافة وكان راجح متهما مناسبا، نهبا الأثاث والثياب وطبعا راجح هو السارق. أما ريما بنت أخت المختار و(وزيرة إعلامه)، فهي الوحيدة التي كانت تعرف أن راجح كذبة اخترعها خالها، وأن الكذبة كبرت وأصبحت «زلمة»، أي رجلا، وكان على القرية أن تستمر في هذه الكذبة.

كذب اللبنانيون على أنفسهم وصدقوا الكذب، كل ما حولهم متهم بتخريب لبنان وإثارة القلاقل وعرقلة أمن واستقرار البلد. فللأكثرية الحاكمة في لبنان (راجح) هو سورية، أما بالنسبة للمعارضة هناك إسرائيل التي تمثل (راجحهم)، وراجح هو بالطبع المتهم بتخريب لبنان لا اللبنانيون أنفسهم.

في الفيلم تدور معركة على الماء بين أهل القرية، ورغم أنهم يحتاجون إليه، إلا أن سلاحهم في هذه المعركة كان أن يسكبوا الماء على بعضهم البعض، من الأرض ومن بلكونات المنازل، إنهم يهدرون ما قامت المشكلة أصلا من أجله لتحقيق نصر وهمي!.

احتار المختار عندما أخبرته بنت أخته بأن هناك راجحا حقيقيا جاء إلى القرية يسأل عنه. سألها هل تأكدت من هويته، «هل قرأت بطاقته؟»، قالت نعم إنه راجح. عندما سمع عيد وفضلو بالوجود الحقيقي لراجح قررا أن يسجنا نفسيهما طوعا في سجن القرية. ولما اكتشف المختار أن راجح لم يكن سوى رجل فقير أراد بيع الخواتم في موسم الخطبة الذي تحتفل به القرية، قال: «الحمد لله الذي بدل راجح الشرير بهذا الراجح الطيب». إلى الآن لا يبدو أن كل اللبنانيين مقتنعون بأن عمرو موسى هو «راجح» الطيب. موقف اللبنانيين، اليوم وغدا، من زيارة عمرو موسى يلخصه المقطع الأول من أغنية فيروز «تعا ولا تيجي، واكذب علي، الكذبة مش خطية».

ما يحدث في لبنان اليوم هو كذبة كبرى يتهم فيها الجميع، إسرائيل وإيران وسورية والأميركان والأوروبيون والعرب، ولا اتهام يوجه إلى الضيعة (القرية)، أو سمها إن شئت (الضايعة)، التي اسمها لبنان.

انظر كيف نصدق الكذب أو نقلب المفاهيم في لبنان وخارجه، وكيف يكرر الدراويش كلاما كذبا فيصبح حقائق اجتماعية. في العالم العربي وحده، ولا عالم غيره، رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب هما المعارضة. نعم، إقرأ الجملة مرة ثانية، رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب هما المعارضة. هكذا كان حال إميل لحود ونبيه بري في لبنان، رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب هما المعارضة. رغم عبثية هذا الكلام، إلا أننا نصدقه ونروجه بالتكرار وتنقلب المفاهيم. وانقلاب المفاهيم حدث طبيعي عندنا لا يجادل ولا يناقش، فكل شيء يصبح مقبولا طالما كرره عدد أكبر من الناس، إننا نصنع حقائق اجتماعية في رؤوسنا غير الواقع، فنصدقها ونحلل الوهم. إذا كان رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب هما المعارضة، فمن هم أصحاب السلطة إذن؟

في الأسبوع الفائت، كتب الدكتور عبد المنعم سعيد («الشرق الأوسط»، 23 يناير 2008) مقالا بعنوان «تقرير من القاهرة: عودة الأستاذ». قدم فيه للمغالطات التاريخية، التي قدمها الصحافي المصري محمد حسنين هيكل، عما دار بين الرئيس المصري الراحل أنور السادات، ووزير خارجية أميركا الأسبق هنري كسينجر. يقول الدكتور سعيد: «ومن الناحية التاريخية فقد ناقشت كلام الأستاذ فيما يتعلق برسالة الرئيس السادات إلى كيسنجر يوم السابع من أكتوبر بالتفصيل في مقال نشر بصحيفة «الأهرام»، وجاء حكمي استنادا إلى رسالتي للدكتوراه عن حرب أكتوبر، أن الأستاذ كان مخطئا ومتجنيا». أقتبس هنا كلام الدكتور سعيد لسبب واحد، هو أن المقالات الجادة أصبحت اليوم «كطلقات النار في فرح العمدة»، كما يقول جماعتنا في الصعيد. الكل يطلق مقالات في الهواء، تذهب ولا تناقش بجدية. وأتمنى على صحيفة محترمة بحجم صحيفة «الشرق الأوسط» أن تفتح سجالات حول المقالات التي ترى إدارة التحرير أنها مثار جدل، فلا يستقيم للعقل أن تمر الأمور هكذا في الصحف الكبرى. المهم هنا، هو أن أحاديث الأستاذ هيكل تحتاج إلى نقد، لتبيان ما هو حقيقة تاريخية وما هو مغالطات.

وخذ مغالطة أخرى جاءت في برنامج «مع هيكل» (قناة الجزيرة، 24 يناير 2008)، اعتمد فيها هيكل على ما قال أنه تقرير لمجموعة الأزمات الدولية حول سيناء، إذ قال، إن سيناء منقوصة السيادة، وانها حسب اتفاقات كامب ديفيد مقسمة إلى أربع مناطق منزوعة السلاح، وتستطيع إسرائيل ضمها متى شاءت. وهنا حذر هيكل من أن تلحق سيناء بالجولان. بداية، إن أبحاث مجموعة الأزمات هي اجتهادات عادية. ثانيا، من يقرأ البروتوكول العسكري لمعاهدة كامب ديفيد، يعرف ببساطة أن سيناء مقسمة إلى ثلاث مناطق وليس أربع. المنطقة (ألف) والتي يوجد بها 22 ألف جندي مصري مسلحين بكل الأسلحة الممكنة بما فيها الصواريخ من أنواع التوا وغيرها، وهي تمتد من الشيخ زويد شمالا إلى سانت كاترين في الوسط، والمنطقة (باء) وهي تمتد من العريش الى سانت كاترين أيضا وبها قوات حرس الحدود. أما في شرم الشيخ ـ رأس محمد، فتلتقي المنطقة (ألف) بالمنطقة (جيم) دنما وجود للمنطقة (باء). والمنطقة (جيم) هي منطقة يوجد بها الأمن المركزي المصري والبوليس. إذن ما يوجد في سيناء ليس «750 عسكريا»، كما يقول الأستاذ. وماذا عن الـ(22 ألف جندي) المنتشرين في مساحة تساوي نصف سيناء ومجهزين بأحدث الأسلحة؟ أما المنطقة (دال)، أي المنطقة الرابعة، التي يتحدث عنها الأستاذ هيكل، فهي توجد داخل الأراضي الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال. لا يوجد في سيناء المصرية المنطقة الرابعة. وجدير بمن درسوا البروتوكول العسكري لمعاهدة كامب ديفيد، أن يصححوا لهيكل أخطاءه.

بالطبع كدارس لمسألة الأمن القومي بشكل متخصص، فإن ما كنا ندرسه لطلابنا في الجامعات الأميركية، على أنه مقدمة لدراسة الأمن القومي (introduction to National Security Studies)، أي بديهيات وأوليات دراسة الأمن القومي، هذا الدرس التبسيطي يروج له اليوم في الفضائيات على أنه من اختراع هيكل. لا أحد يحاول الدفاع عن الحقيقة، أو يقف في وجه موجة المغالطات العالية، هل لأننا خائفون، أم لأننا حقا نؤسس اليوم لمدرسة جديدة أساسها عدم الوضوح واللعب على كل الحبال، جوهرها: «تعا ولا تيجي، واكذب علي، الكذبة مش خطية»!

أخيرا، أذكر بأن مسرحية فيروز التي ستعرضها في دمشق هي بعنوان «صح النوم»، عنوان مناسب لرسالة هذا المقال.