فتحة في جدار

TT

بالتزامن مع استمرار المجازر التي يتعرّض لها الفلسطينيون العزّل ضمن سياسة التطهير العرقي التي اعتمدتها الحركة الصهيونية العالمية منذ بداية احتلالها لفلسطين، صدرت في الغرب دراستان هامتان تتعلقان بزمن التحضير للحرب على العراق. ولكنهما تكشفان أساليب الكذب والخداع التي تمارسها الأنظمة الديمقراطية في أكبر وأعرق ديمقراطيتين في العالم من أجل خداع شعبهما دون وازع أو رادع أو محاسبة، حتى وإن أدّت إلى قتل وجرح وتدمير حياة الملايين من البشر. دراسة أمريكية نشرتها منظمتان أمريكيتان مستقلتان عنوانها «حججٌٌ واهية»، مفادها أنّ الرئيس الأمريكي جورج بوش والمسؤولين الكبار في إدارته أدلوا، في السنتين اللتين تلتا هجمات 11 أيلول 2001 وسبقتا الحرب على العراق، بمئات «التصريحات الكاذبة» عن التهديدات التي يشكلها العراق على الأمن القومي الأمريكي. وقال واضعو الدراسة الأعضاء في «المركز من أجل السلامة العامة» و«الصندوق من أجل صحافة مستقلة» أنّ «دراسة كاملة تدلّ على أن التصريحات شكلت جزءاً من حملة منظمة أثارت الرأي العام ودفعت البلاد إلى الحرب على أساس تصريحات كاذبة تماماً»، وأضافت الدراسة أنّ مسؤولين كبارا في الإدارة الأمريكية، بينهم الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني ومستشارة الأمن القومي (آنذاك) كونداليزا رايس ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، أدلوا بما لا يقلّ عن 935 تصريحاً كاذباً خلال السنتين اللتين تلتا 11 أيلول عن «الخطر الذي يشكله صدام حسين على الأمن القومي الأمريكي». والدراسة الثانية، بريطانية، تنشرها جريدة الغارديان في ملاحقها الأسبوعية، وهي أجزاء من كتاب كتبه الصحفي البريطاني المعروف جوناثان ستيل، والذي يبيّن كيف ذهب البريطانيون إلى الحرب «دون معلومات، ودون تحضير، ودون أدنى فكرة عن أسباب هذه الحرب، وعن النتائج التي يمكن أن تقود إليها». ويستذكر جورج جوف، المستعرب في جامعة كامبريدج، حين دعاه رئيس الوزراء توني بلير مع خبراء آخرين لاستشارتهم بموضوع شنّ الحرب على العراق، كيف أنّ رئيس الوزراء (آنذاك) فقط تحدث عن صدّام ولم يُعر اهتماماً لما قيل له عن العراق أو شعب العراق، ويقول جوف: حصل لدي انطباع عن شخص «بذهن سطحي جداً لا يعير اهتماماً لأية مسألة ما عدا الشخصيات في المراكز العليا، دون أي اهتمام بالقوى الاجتماعية أو التيارات السياسية أو غيرها» (جريدة الغارديان ـ الملحق الأسبوعي، الاثنين 21/1/2008).

كما كشفت تقارير أمريكية عن إخفاء البيت الأبيض 5 ملايين رسالة الكترونيّة للتغطية على أسلوبه في إدارة حرب العراق واعتبَرَت المنظمات الحقوقيّة أنّ الإدارة الأمريكية حذفت عمداً كلّ ما يمكن أن يدينها، كما أنها حذفت تاريخاً يمتلكه الشعب الأمريكي والمتابع لما يجري للشعب العربي في فلسطين، خاصةً المجازر الرهيبة، والحصار الوحشي، والعقوبات الجماعية التي تعيد الذاكرة البشرية إلى العقوبات الجماعية التي كان يفرضها هتلر، والتي فرضتها الإدارات الأمريكية على شعب العراق، يلحظ سياسة الخداع والتزوير والكذب نفسها تمارسها قوى الشر الديمقراطية على شعب فلسطين. وهذا واضح في ما تنشره الجرائد العربية والأجنبية من عناوين ومقالات تخلط الأوراق والمفاهيم، وتنشر الأكاذيب كي تستمرّ إسرائيل بحملات الإبادة العرقية والاستيطان ضدّ عرب فلسطين بعد أن نجحت سياستها بعزلهم داخل أكبر سجن في القرن الواحد والعشرين لشعبٍ أعزل من التضامن العربي. فيما تحصل إسرائيل على تضامن ودعم وتمويل الغرب كله، وتحصل على الصمت الرسمي العربي، بل وتفوز بالعجز الرسمي العربي المشغول بخلافاته الهامشية المعتادة، فيغضّ الجميع أبصارهم عن سياسة التجويع التي يتعرّض لها عرب غزّة.

والمستعرض لمعظم ما نُشر عن غزّة يلحظ لغة التضليل المتعمّدة، ففي يوم ارتكبت فيه إسرائيل مجزرة بشعة بدم بارد ذهب ضحيتها عشرات الشهداء وعشرات الجرحى، نقرأ في الهيرالد تريبيون (الأربعاء 16/1/2008) «18 ماتوا حين اشتعل العنف في غزّة. هجوم يقتل قائد حماس»، لم يذكر أن 18 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل، المحتلة لأرضهم وسمائهم وأجوائهم وبحرهم، بل تحدث المقال عن مسؤولية حماس وأنّ جرائم إسرائيل هي جواب على صواريخ حماس التي تحوّلها آلة التزوير والخداع الإعلامية المتواطئة مع ساسة الاحتلال والاستيطان، بديلاً عن السبب الرئيس للصراع في الشرق الأوسط، ألا وهو الاحتلال الإسرائيلي لأرض عرب فلسطين وحرمانها، بقوة السلاح الأمريكي وبالعجز العربي، من الحرية والاستقلال، وتدميرها بدعم أمريكي ومحلي للديمقراطية الفلسطينية التي يقبع ممثلو الشعب المنتخبون في السجون أو ضحايا الاغتيال الإسرائيلي. كما أنّ موقف واشنطن، كالعادة، مخزيٌ وفاضح لما يمكن أن تتخذه أي دولة من خطوات لإنقاذ شعب بأكمله يرزح تحت احتلال عسكري دموي بغيض يتجرأ أن يدعو الأسرة الدولية لإدانة الشعب الذي هو ضحية بدلاً من إدانة وتجريم ومحاسبة ومعاقبة المعتدي على حرية وأمن وحياة الفلسطينيين. إسرائيل تهدف من وراء كلّ هذا العنف الدموي وجرائم التجويع الوحشية إلى إنهاء مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال واستسلامه للاستعمار الصهيوني، الذي يراد منه إخضاع العرب كلّهم مباشرة، أو بشكل غير مباشر، عبر الضغوط الأمريكية على هذه الدولة العربية أو بالاحتلال الأمريكي المباشر. ولكن لنرى عزيمة عرب فلسطين على الكفاح من أجل الحرية، فعندما صرّح أولمرت أنّ «كلّ سكان غزّة يمكن أن يسيروا على الأقدام ولا وقود لسياراتهم بسبب نظامهم القاتل»، فسارت نساء غزّة إلى رفح وفي اليوم التالي، ورغم ما تعرّضت له النساء من إطلاق نار وضرب ومصاعب، سار الجميع، أطفالاً ونساء ورجال، ليسقطوا الجدار الحديدي الذي يفصل بين شطري رفح العربية لكسر حاجز الظلم، والتجويع ولمواجهة العنصرية الصهيونية، مثيرين دهشة العالم وإعجابه، العدوّ منه قبل الصديق، فقد كتب الكاتب اليهودي جيف هالبر مقالاً بعنوان «ثغرة في الجدار: النصر للشعب الفلسطيني» «إنّ الفلسطينيين لا يمثلون أنفسهم فقط، بل إنّ نضالهم ورفضهم الخنوع يعكس رغبة ملايين الناس المظلومين والطامحين إلى الحرية والكرامة والحياة الحرة الكريمة، وفي هذا يقف الفلسطينيون في طليعة الناس، في كلّ مكان، الذين يصرّون على حقوقهم وقيمهم الأساسية التي يجب أن تحترم».

لقد دأبت إسرائيل على وصف كلّ ما يتعلّق بكفاح شعب فلسطين من أجل الحرية، بالإرهاب. وكلّنا يعلم أنّ كل من قتلتهم إسرائيل يمثّلون التوق لتحقيق الحلم الإنساني العزيز بالحرية والكرامة. في كلّ مناوراتها على ما تسميه «السلام»، والتي تترافق مع حركة استيطانية نشطة، تهدف إسرائيل إلى إنهاء المقاومة وتثبيت واقع الاحتلال والاستيطان، وحين ينتخب الشعب الفلسطيني انتخابات، شهد الرئيس الأمريكي كارتر أنها نزيهة وأخلاقية وشفافة، زجّت إسرائيل بممثلي الشعب الفلسطيني المنتخبين في سجونها. كلّ هذا والعالم المتحضّر يراقب ملايين الفلسطينيين يعانون الذلّ والقهر والاستعمار والتجويع. ولكن هل يعقل أن تقف البلدان العربية جميعاً عاجزةً عن فعل شيء؟

لقد انبرى كتاب أجانب لتحية شعب هو في طليعة الشعوب المناضلة من أجل الحرية، ويمثل نبراساً هاماً لها فكيف لا نفخر نحن العرب بصمود هذا الشعب ونهبّ جميعاً لنصرة مقاومته الباسلة والتي هي هدف إسرائيل الأول والأخير لأنها رمز الكرامة العربية؟ كلّ صاروخ، وكلّ حجرة يضربها طفل المقاومة، وكل امرأة تصرخ في وجههم تذكّرهم أن احتلالهم للأرض العربية مؤقّت وأنها ستعود لأهلها. لقد وضع الشعب الفلسطيني نفسه في صفّ من تفخر بهم البشرية، فهل يجمع الكتّاب العرب اليوم على الابتعاد عن اللغة الخشبية المستوردة من قاموس الخداع الغربي المعهود، وهل لهم أن يكتبوا بلغتهم بما يستحق كفاح عرب فلسطين من صفات إنسانية رائعة ووصف إسرائيل لما تفعله من جرائم ومجازر وإبادة؟ ولنخرج جميعاً من دائرة أكاذيبهم واستهدافهم، فالشعب الذي أنهكه الحصار لم يستكن، فلماذا تستكين بقية الشعوب العربية في بلدانها، ولماذا لا تنتفض وتكسر الحواجز والجدران بينها وتبني صفاً عربياً موحداً للدفاع عن حقّ عرب فلسطين في الحرية والاستقلال؟ رغم كلّ ما تلحقه إسرائيل بشعب فلسطين يبقى هو الذي يزوّدنا جميعاً بنبض الحياة. سيكتب التاريخ مرتكبي الجرائم بحقّ الشعب الفلسطيني أنهم قادة الإرهاب ومحرّكوه، وستستقي الأجيال من نضال أهلنا في فلسطين دروس العزّة والكرامة والحضارة الراقية.

www.bouthainashaaban.com