للمرة المائة.. مَن جرَّب المُجرَّب..

TT

فـإن يك قومنـا أضحـوا نياماً

فـقـل قوموا لقـد حـان القيـام

وفـرّي عن رحـالك ثـم قولي

علـى الإسـلام والعرب السـلام

(نصر بن سيار الليثي)

في دنيا السياسة لا تتكرّر الفرص المؤاتية للعمل الجدي، وإن حصل وأعاد التاريخ نفسه، فسنحت فرصة أخرى .... يكون الثمن المطلوب أعلى ومعطيات التسوية أكثر تعقيداً.

العالم العربي، وتحديداً الجزء المشرقي منه، حيث يتكشف يوماً بعد يوم حجم التحديات التي تواجهه مؤدية لاختلال ميزان القوى الإقليمي لغير صالحه، مطالب بخطوات عملية ناجعة لمعالجة هذا الوضع.

تجاهل الواقع، وبالتالي، الهروب إلى الأمام .... لا فائدة ترجى منه.

الكلام الدبلوماسي المنمق ... صار من الماضي.

خيار المقايضة .... ما عاد وارداً في ظل اشتداد الاستقطابات المذهبية والإقليمية والدولية.

التعويل على حسن نية زيد وطيب محتد عمرو ... رهان ساذج وسط كل ما نرى ونسمع.

ما يمرّ به هذا المشرق العربي الجريح، المطبقة عليه «كماشة» بثلاثة أنياب ـ إسرائيلي وإيراني وتركي ـ يستحق «صحوة» سريعة قبل فوات الأوان. وما لم يدرك القادة، وليس فقط وزراء خارجيتهم ما نحن مهدّدون به، سيجد كل كيان عربي نفسه مضطراً للدفاع عن وحدته الداخلية ... بعد أن يفقد ما تبقى له من أوراق نفوذ إقليمي.

وحتى مَن يراهن على أن يكون «حصان طروادة» لبعض اللاعبين الإقليميين الثلاثة من غير العرب، فإن «شطارته» لن تفيده كثيراً، ووفق حسابات القوة والنفوذ لن يكون في أفضل الحالات ... أكثر من مجرد أصبع أو واجهة للقوة غير العربية التي تحرّكه ضد أشقائه.

ولكن ما لنا والنظريات والتوقعات، ولنتكلّم بالوقائع على الأرض ...

في المشرق العربي، بسبب الارتباط الاستراتيجي لإسرائيل بالمحور الرأسمالي الغربي، واعتماد هذا المحور ـ استراتيجياً أيضاً ـ على النفط، وبالنظر إلى الإرث الاستعماري الغربي (البريطاني/الفرنسي) القديم في المنطقة، كان من الطبيعي جداً أن يكون للقوى الغربية نفوذ وحضور إقليميان كبيران. غير أن بروز الاتحاد السوفياتي السابق على المسرح العالمي، أشّر لبداية حقبة «الحرب الباردة» التي قام فيها النمط المألوف لـ«لعبة» السياسة الدولية على ثنائية المحاور أو محاولة رفع شعار «عدم الانحياز» مع الاستفادة من هذا المحور أو ذاك كلما سمحت الظروف.

ولكن ترهّل قوى «الاستعمار القديم» وعجزها عن مواجهة أكلاف الصراع «الرأسمالي – الشيوعي» بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وانصراف القوتين العالميتين الجديدتين إلى توسيع ساحة مواجهاتهما ... كانت عوامل مهمة ساعدت مباشرة على استقلال كل دول آسيا وإفريقيا والقارة الأميركية (جزر الكاريبي خصوصاً، بجانب غيانا وسورينام).

ثم جاءت نهاية «الحرب الباردة» عام 1989 بانفراد واشنطن بموقع «القوة العظمى» العالمية الوحيدة ... لتفرض على العالم ـ بما فيه المشرق العربي طبعاً ـ حسابات واعتبارات جديدة.

فبعدما كانت القوى اليسارية والقومية، المدعومة من موسكو، تشكّل صلب الديناميكية الثورية المناهضة للوجود والنفوذ الغربيين في المنطقة، والطليعة الفاعلة في المقاومة الفلسطينية، ومنطلق الزخم التغييري في عدد من الدول العربية، كان لا بد من أن ترث قوة ما «الحالة الاعتراضية» أو«التغييرية». وبما أن «الإسلام السياسي» ظل البديل الصامت وغير المستهلك (بل أحياناً المدعوم رسمياً) في عدد من الدول العربية ... سهل عليه القفز إلى الواجهة لانتزاع شرعية «الاعتراض» و«التغيير».

وإذا أضفنا البعد «الثوري – الثيوقراطي» الإيراني وتأثيره الضخم (فكرياً واستراتيجياً ومالياً) على الجماهير الشيعية في عدد من الدول العربية، وتداعيات حرب أفغانستان على صعيد دفع قطاعات واسعة من السنّة نحو الراديكالية العنفية، يغدو مفهوماً كيف وصلت المنطقة إلى المأزق الخطير الحالي ... بتسهيل من خلفيتين أخريين مساعدتين وخطيرتين.

هاتان الخلفيتان هما:

ـ تسارع جنوح إسرائيل نحو اليمين بعدما انتهى دور الصهاينة الاشتراكيين (حزب الماباي ثم العمل) كحزب السلطة الطبيعي لمصلحة الرجعيين والفاشيين الليكوديين والتوراتيين الأصوليين.

ـ النمو «الأصولي» الإنجيلي داخل الولايات المتحدة نفسها واستغلال البراغماتيين اليمينيين من «المحافظين الجدد» هذا النمو ... ومعه هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، لإعادة رسم خريطة المنطقة التي تضم أضخم احتياطي للطاقة في العالم.

اليوم، يدرك الجميع، وعلى رأسهم أدعياء النضال ضد «النظام العالمي الجديد» وأصحاب المصطلحات الأحمد نجادية و«التشرينية» و«الحزب اللّهية» و«الحماسية»، حقيقة اختلال التوازن الاستراتيجي العالمي وضخامة حجم القوة العسكرية الأميركية الضاربة في حال اضطرت واشنطن لاستخدامها، ناهيك من قدرات الولايات المتحدة المالية الهائلة. ولقد سمعت قبل أيام من شخصية يسارية لبنانية عاقلة تقول في مقابلة تلفزيونية «من المستحيل اليوم التصدي للنظام العالمي من خارجه. فهذا نظام نحن جزء منه شئنا أم أبينا، ولذا لكي نؤثر فيه علينا أن نتقبل حقيقة وجوده، ومن ثَم السعي إلى تغيير اتجاهاته المؤذية لنا من الداخل».

هذا منطق صحيح. فمن الغباء أن يتصدى المرء لحافلة مندفعة باتجاهه إذا كان بإمكانه الابتعاد قليلاً عن مسارها ومحاولة تسلقها أملاً بالوصول إلى المقود.

غير أن المشكلة مع المزايدة التي تروّج لفضائل الانتحار أمام جماهير محرومة إلى حد اليأس، كما رأينا في غزة، ... أن أصحابها يسعون من الباب الخلفي إلى عقد صفقات من وراء هذه الجماهير وعلى حسابها.

نعم، أدعياء النضال وأبطال المزايدة يدركون جيداً حقيقة الأحجام العالمية، ولذا فهم يعقدون المفاوضات ومن ثم الصفقات السرّية، لكنهم لذر الرماد في العيون يعطلون ويراهنون ويغرّرون ويضللون ويلعبون على التناقضات ... ولو وصلت الأمور إلى محظور الحروب الأهلية.

ولنتذكر، إن نفعت الذكرى، أن الحروب الأهلية في فلسطين وفي لبنان وفي كل بقعة من المنطقة العربية ... كانت وما تزال هدفاً استراتيجياً عند غلاة التطرف في إسرائيل والغرب.