رحيل هادئ في عمان

TT

عاش الرجل الثاني في الثورة ومات الرجل الثاني، وكان الفلسطيني الأول يتطير من مصطلح «الرجل الثاني» الذي حمله صلاح خلف في «فتح»، لكن مرتبة جورج حبش، في قلب الثورة وبعيدا عن «فتح»، لم تكن مقلقة ولا مضرة. فهو قادر على قطع المسافات الطويلة مع استحالة الوصول الى القمة في فلسطين. لا يستطيع الصلاة في المسجد الأقصى. كان رجلا «مناسبا» لعرفات بكل المعاني. لقد أخذ عنه أعباء كثيرة وأبعد إحراجات أكثر: هو الذي ذهب إلى الماركسية فيما بقي عرفات في الصداقة مع السوفيات. وهو الذي ذهب إلى التطرف في العنف، فيما بقي عرفات على رأس المقاتلين. وهو الذي قاطع ـ وقاطعته ـ الدول العربية، فيما بقي عرفات يعانق القادة والمستقبلين ويربت على أكتافهم.

ثمة ظاهرة في النضال الفلسطيني، هي أن الذين ذهبوا إلى أقسى درجات العنف، كانوا من المسيحيين. وذات مرحلة كان الدكتور وديع حداد والدكتور جورج حبش أول المطلوبين على لائحة المطاردة الإسرائيلية. والظاهرة الثانية في سِمات المرحلة في القرن الماضي، أن حركة القوميين العرب، خرجت من الجامعة «الأميركية» في بيروت. ولم تتوقف مع مؤسسيها، جورج حبش وقسطنطين زريق وعبد المحسن القطان وعلي فخرو وأحمد الخطيب ورفاقهم، بل ظلت تنمو في قلب الجامعة ومحيطها حتى وقوع حرب 1975.

وقد غادر الجامعة إلى البلاد العربية، ما بين أواخر الأربعينات وأوائل السبعينات، «رفاق» كثيرون من قوميين وبعثيين وقوميين سوريين، بحيث تبين أن «الأميركية» كانت أكبر نبع لليسار العربي. لكن جورج حبش، أو «الحكيم»، ظل أشهر هؤلاء. وعندما شهد هزيمة 1967 انتقل من القومية إلى الماركسية، ومن العمل السياسي إلى «الجبهة الشعبية»، ومن النضال العلني إلى العمل السري. ولم يعد مطاردا فقط من إسرائيل بل أصبح مطاردا في دمشق (حيث سجن وفرّ من السجن)، وفي عمان وفي بيروت. وفي نهاية المطاف عاد إلى العواصم الثلاث يمضي سنواته الأخيرة، هادئا غير مستكين، معتل الصحة، فوار الحماس، غير متراجع عن شيء أو متهادن مع أحد.

توفي «الحكيم» في عمّان، التي قاتلها وحاول قلبها وأحرق فيها الطائرات وقبله كان ياسر عرفات قد ذهب إليها لجراحة في الدماغ بعد سقوط طائرته في الصحراء الليبية. ويتقاعد في «جبل عمان» رفاق كثيرون، بقي لهم في هذا العالم العربي مكان يأتون إليه.