35 مليون عربي رهائن لدى «الجهاديين»

TT

الحاجات اليومية الأساسية في الحياة الحديثة هي الماء. الخبز. الطاقة. الدواء. الحاجات المكملة هي معلوماتية المعرفة والاتصال. الخدمات من سكن وطرق وسكك ومدارس ومشاف... هذه الحاجات لا تستقيم في الدولة المعاصرة الا بتوفير الضمانات الاجتماعية والأمن والعدل وتطبيق القانون والنظام.

الدولة الماركسية والاشتراكية توليتا تأمين هذه الحاجات والضمانات كلها. الدولة الرأسمالية تركت لاقتصاد السوق تأمين بعضها. الدولة الدينية هي الأقرب للنظام الرأسمالي، حيث اقتصادها حر تقريبا، لكن مجتمعها موجه ومراقب.

هذه المقدمة ضرورية لإدراك واجب السلطة الدينية الإخوانية في غزة تجاه مواطنيها ومجتمعها. غير ان هذه السلطة قدمت، منذ استيلائها على غزة وإسقاط السلطة الشرعية الفلسطينية، مشروع «الجهاد المسلح» لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر على كل الواجبات الأخرى المذكورة!

كان الفشل متوقعا للجهاد بصاروخ التنك البدائي. وكان العجز في تأمين الحاجات الضرورية محتماً. نتج عن الفشل والعجز حصار إسرائيل الاقتصادي للقطاع. بعد بدء المفاوضات بين سلطة عباس واسرائيل، صعدت «الجهادية» الحماسية قصف إسرائيل لنسف المفاوضات! في المقابل، وبحجة واجب الدولة في تأمين أمن مواطنيها، وهو حق يضمنه القانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة، فقد قطع باراك وزير الأمن الجديد إمدادات الطاقة والغذاء التي يتوجب على الدولة المحتلة تقديمها إلى القطاع المحتل.

أمام مأزق الفشل والعجز الجهادي، غامرت «حماس» بنسف حاجز العبور الدولي بين غزة ومصر. وشنت مع التنظيمات الجهادية الاخرى المرتبطة بإيران وسورية حملة دعاية صاخبة للتنصل من مسؤولية حصار وتجويع 1.5 مليون انسان فلسطيني. كان عماد الحملة الواسعة المكابرة الغوغائية في المغالطة وقلب الحقائق. الأدهى تحميل هذه «الجهاديات» النظام العربي، إلى جانب اسرائيل، مسؤولية الواقع الغزِّي المؤلم!

ليست غزة وحدها ضحية «الجهادية» السريالية. حولت الجهاديات 35 مليون انسان عربي، امتدادا من العراق إلى لبنان وغزة ومخيمات اللاجئين، الى حقل تجارب لا انسانية. الانسان في المشرق العربي الآن «حيوان» اختبار للعمل «الجهادي». قتلت «الجهادية» القاعدية والشيعية من العراقيين أكثر بكثير مما قتلت من قوات الاحتلال. دمرت اللحمة الاجتماعية والدينية. هي الآن تهدم وتدمر المؤسسات والخدمات الاجتماعية، كالمدارس والأسواق والمباني السكنية والأحياء الشعبية على أهلها، لاستحالة حمايتهم. تثبت «القاعدة» انها لا تملك مشروعا دينيا لحكم المجتمع العربي أو الإسلامي. ثار المجتمع العراقي أخيرا على تخلفها وقسوتها وعنفها، كما ثار المجتمع الجزائري على مثيلتها في المغرب العربي.

الجهادية الشيعية في لبنان لا تقل استهتاراً عن الجهادية السنية في العراق. في حمأة الاختبار بين «حزب الله» واسرائيل، مات 1200 انسان شيعي. منطق «إلهي» غريب: نتسبب في قتلهم. ثم نُعَوِّض عليهم! كأن المال يعوض عن إزهاق الروح والحياة. تعهد الحزب بعدم استخدام سلاحه في الداخل، بعدما تم تحييد سلاحه ضد اسرائيل بالقوات الدولية. ها هو الآن يحتل منذ أكثر من سنة مدينة الفرح الجميلة التي بناها الراحل الحريري في قلب العاصمة.

لا أحد يجرؤ، حتى الجيش اللبناني، على اقتلاع الخيام التي عطلت دورة الحياة الاقتصادية والمعيشية، لأن «دولة الحزب» تحمي بقوة السلاح الاعتصام الذي لا يشابهه اعتصام آخر في العالم.

اختبرت حماس «حيوانات» التجارب في غزة. عندما أدركت ان هذه المخلوقات الانسانية الأليفة لم تعد قادرة على تحمل الحصار والحرمان (اللذين فرضتهما عليها مع اسرائيل) بادرت بإطلاقها باتجاه مصر. المشهد المؤلم اعتبرته حماس انتصاراً لا إدانة لها! ثلاثة أرباع مليون انسان اندفعوا هاربين من «جنة» حماس بأسمالهم البالية وشقائهم المرسوم على الوجوه، بحثا عن مقومات الحياة التي عجزت دولة «حماس» عن توفيرها لهم.

هل هذه هي حرب التحرير؟ هل هكذا الجهاد والمقاومة؟ هل هذا هو المشروع الإخواني لإقامة المجتمع الديني العادل؟ لا شك ان «الجهاد» الديني هو على طريق «النضال» القومي، في خسارة المواجهة مع المشروع الاسرائيلي. بسبب الارتجال ونَحْوِ السبيل الخطأ.

لا يكفي ان النظام الجهادي الطالباني استدعى الغزو الأجنبي لأفغانستان بالسماح لشريكته (القاعدة) في ارتكاب مجزرة نيويورك. التنظيمات «الجهادية» العربية، بما فيها تنظيم «القاعدة» تجدد اليوم حربها على النظام والمجتمع العربي، بعدما خسرت الجولة الأولى في التسعينات.

كيف يدير النظام العربي دفاعه عن نفسه ومجتمعه أمام الهجمة الجهادية الجديدة؟

أقول بصراحة ان النظام يمارس التردد في المشرق العربي أمام الهجمة التي تقودها إيران وسورية. النظام العربي كسب، لا شك، معركة الأمن. التزم بواجبه كدولة في حماية المجتمع. وفي توفير الحد الأدنى من المقومات الأساسية لحياة الناس اليومية، وإن كان بحاجة إلى دمج التنمية البشرية في صميم التنمية الاقتصادية.

لكن النظام يخسر المبادرة ومعركة الدعاية. لا يقدم المراجعة الكافية لمسلسل أخطاء «الجهاديات» الفلسطينية في المواجهة مع اسرائيل. النظام الدولي يدين اسرائيل فقط في الانتقام من صواريخ غزة غير المجدية. عليه ان يدين النظام «الجهادي» الذي وضع مجتمعا عربيا بأسره رهن المختبر، لاجراء تجارب التجويع والحصار والإفقار عليه، بحجة خدمة مشروع تدين اسرائيل، واستعادة فلسطين من البحر إلى النهر بصواريخ التنك.

كانت حكمة الرئيس مبارك كبيرة في التسامح مع حماس واهل غزة المندفعين عبر الحدود. ربما لا بد من اطالة المدة أمام الجياع قبل اغلاق معبر رفح. لكن لا بد من فضح مسؤولية حماس عن المأساة. لو اعتمدت حماس تنمية القطاع اقتصاديا، بدلا من تنمية صواريخ التنك غير المجدية، لكانت غزة اليوم واحة مرفهة تطعم وتنمِّي نفسها بنفسها، وليست بحاجة إلى أن تكون كالأيتام على مائدة اللئام الاسرائيلية. المشكلة ان ثقافة التنمية لم تصل بعد إلى هذه «الجهاديات». تخلف الوعي القيادي هو الذي يجعل وحده السلاح وقفا على المقاومة، وليس السلاح مع التنمية.

الإعلام العربي يكتفي بتحميل اسرائيل المسؤولية عن مأساة غزة. لماذا لا يقول الإعلام بصراحة ان مصر ملتزمة باتفاقات ثنائية ودولية في مقابل استعادة سيناء. المعابر الحدودية شأن سيادي. لا يمكن لدولة أن تفرط فيه. لا بد من كشف تهريج حماس والجهاديات والتظاهرات الاخوانية، في المزايدة على مصر وإحراج نظامها، ومفاخرة العرب بكسر الحصار عن غزة، فيما هي المسؤولة الحقيقية عن مأساتها.

مبارك يستدعي «حماس» للقائه، ربما لوضع حد لمزايداتها المكشوفة. هو يطالب مع السعودية بالتفاوض بين عباس وحماس لاستعادة الوحدة الفلسطينية. ماذا تفعل مصر أكثر من ذلك؟ ربما ممارسة عناية أكبر في تطوير سيناء. إذا كان ممنوعا امتداد مصر عسكريا في سيناء، فيمكن سد الفراغ بإسكان مزيد من المصريين في هذا الخط المتقدم للمواجهة مع اسرائيل.

هل تعود مصر إلى غزة؟ ربما هو الحل المؤقت الأفضل، شرط ان يتم دخول القوات المصرية سلما، ريثما تتم المصالحة بين فتح وحماس وسلطة عباس. كان رابين يقول: «أتمنى أن تغرق غزة في البحر». أغرقت حماس واسرائيل غزة بدموع الجوع والحصار. مشعل لا يستحي أمام أهل غزة. يهددهم من دمشق في ذروة مأساتهم باستئناف قصف اسرائيل بصواريخ التنك. مصر قادرة على كفكفة دموع غزة وإعادة الفرح إلى الوجوه التي شبعت من كآبة مواكب التشييع العارية، ومن صخب الشعارات الفارغة، وعويل النساء وبكاء الأطفال.