المقاومة وليست حماس هي المشكلة

TT

لا يكفي أن نتابع أخبار الاشتباكات والتجاذبات الحاصلة في البؤر الساخنة بالعالم العربي، فلسطين ولبنان والعراق مثلاً، لأن الأهم من ذلك أن نتحرى العوامل التي تحرك تلك الاشتباكات. وأخشى أن يصرفنا استغراقنا في تتبع تفاصيل الأحداث المثيرة المتلاحقة في تلك المناطق عن إدراك دور القوى المحركة ذات المصلحة الحقيقية في تفجير الأوضاع، وحرصها على تعزيز طرف دون آخر بحيث يبدو في ظاهر الأمر رجحان كفة ذلك الطرف «المسنود» انتصاراً له، في حين أنه في حقيقة الأمر كسب تحققه القوى المحركة وهي تسعى لتنفيذ مخططاتها على مختلف الجهات.

الحالة الفلسطينية نموذج لما أدعيه ذلك أننا نشهد منذ ظهرت نتائج الانتخابات التشريعية التي أجريت في شهر فبراير عام 2006، ان ثمة تصعيداً مستمراً في الاشتباك بين حركتي فتح وحماس. ذلك أن حركة فتح التي ظلت قابضة على السلطة منذ توقيع اتفاق أوسلو في عام 1993 فوجئت بأن ثمة قوة أخرى صاعدة انتزعت منها الأغلبية، واستحقت أن تباشر السلطة وأن تكون شريكة في القرار السياسي. ولعل كثيرين يذكرون التصريحات التي نقلها التلفزيون آنذاك لبعض قادة فتح التي أعلنوا فيها عن دهشتهم لما جرى، ورفضهم المشاركة في حكومة حماس، ومنهم من اعتبر مثل هذه المشاركة «عاراً» يتعين على فتح أن تنأى بنفسها عن التورط فيه. وإذا كان بعض الذين احتكروا السلطة وانتفعوا من مواقعهم فيها سنين عددا قد أغضبهم ذلك التحول الذي أفقدهم مناصبهم وميزاتهم، إلا أن الرافض الأكبر لنتائج الانتخابات كانت اسرائيل والولايات المتحدة، اللتان أعلنتا مقاطعتها للحكومة التي ترأسها حماس. وسواء كانت تلك مصادفة أم لا فالحاصل أنه منذ بدايات عام 2006 أصبحت بعض قيادات فتح القابضة على «السلطة» تقف في مربع واحد مع الأمريكيين والاسرائيليين.

هذا الاصطفاف كان مفهوماً ومنطقياً، لأن عناصر السلطة التي كانت مهيمنة على القرار الفلسطيني كانت ذاتها التي رتبت أمر اتفاق أوسلو الذي تعتبره الكتابات الاسرائيلية أهم صفقة سياسية في تاريخ الدولة العبرية منذ تأسيسها. الأمر الذي يعني أن تلك العناصر لم تكن محتكرة للسلطة أو منتفعة بها فحسب، وإنما كان لها أيضاً موقفها السياسي و«الإيجابي» الذي باركه الاسرائيليون والأمريكيون، ولم يعتبروه عقبة في طريق مسارهم ومخططاتهم.

حين ظهرت حماس في الأفق وفرض عليها التصويت لصالحها في الانتخابات أن تشارك في السلطة والقرار فإن ذلك كان يعني أن ثمة عنواناً جديداً في الساحة يتناقض مع ما كان مرسوماً ومخططاً يعني كذلك أن فريق المقاومة لم يعد هامشياً في خرائط السلطة، وإنما أصبح له حضور في قلب تلك السلطة، الأمر الذي لم يفاجئ الجميع فحسب، وإنما أربكهم أيضاً. فذلك الحضور حتى إذا لم يستطع أن يغير من مسار التسوية والتنازلات، فإنه على الأقل فضحه وأوقفه. إزاء ذلك فقد كان طبيعياً أن تتحول المنافسة بين فريق اوسلو ودعاة المقاومة إلى حرب شرسة وضروس، لاحت بوادرها منذ اللحظات الأولى لظهور نتائج الانتخابات التشريعية، إذ أنها في جوهرها لم تكن منافسة بين فصيلين فلسطينيين، وإنما كانت اشتباكاً بين مشروعين سياسيين، أحدهما مضى في طريق التنازلات المجانية منذ توقيع اتفاق أوسلو، والثاني اختار نهج المقاومة ورفض التسوية التي كانت وما زالت تعزز موقف الإسرائيليين وتضعف موقف الفلسطينيين. ( للعلم: عدد المستوطنين كانوا 100 ألف حين وقعت أوسلو وعددهم الآن نصف مليون). ما جرى بعد ذلك معروف، حيث دأبت الأطراف التي أضيرت مصالحها وسياساتها من التطور الذي حدث على إفشال تجربة حماس في الحكم وكان الفلتان الأمني في مقدمة الأساليب التي اعتمدت لتحقيق ذلك الهدف، إضافة الى التحريض السياسي الذي مورس ضد حكومة حماس لتكريس مقاطعتها سياسياً واقتصادياً. وهو ما شجعته ورحبت به بشدة الولايات المتحدة واسرائيل. لم يتغير الموقف حين شكلت حكومة الوحدة الوطنية (مارس (آذار) 2007). فالرئيس ابومازن قاطع الحكومة من ناحية، والامريكيون وحلفاؤهم الغربيون قاطعوا وزراء حماس فيها. وفي الوقت ذاته استمرت محاولات إثارة الفوضى في الداخل، التي قادتها عناصر الأمن الوقائي والأجهزة التابعة للرئاسة، كما استمرت عمليات التحريض السياسي في الخارج ولم تجد الحكومة مفراً من التصدي للأجهزة الأمنية التي عملت طوال الوقت على شل حركتها وهو ما حدث في منتصف يونيو (حزيران) الماضي حين قام بالمهمة جهاز القوة التنفيذية الذي استحدثته وزارة الداخلية وحين تم الاستيلاء على مقرات الأجهزة الأمنية، انهارت بقية أجهزة السلطة بصورة غير متوقعة، الأمر الذي اضطر حكومة حماس إلى إدارة تلك الاجهزة وتسيير العمل فيها. وهكذا فإن ما بدا إجراءً أمنياً انتهى فراغاً سياسياً وإدارياً، واعتبر من جانب جماعة السلطة في رام الله بانه «انقلاب»، في حين أن الإجراء الذي اتخذ لم يكن موجهاً ضد السلطة ولا ضد فتح، ولكنه كان موقفاً طبيعياً من جانب الحكومة المنتخبة إزاء أجهزة أمنية تآمرت عليها وسعت إلى إرسالها وإسقاطها وتلك كانت حدوده، لأن الإجراء لم يمس كيان السلطة ولا رئاستها ولا مؤسساتها الأخرى. وحين وصف الاجراء بأنه «انقلاب» فإن هذا التوصيف انطلقت منه جماعة اوسلو لفض شراكتها مع حماس في حكومة الوحدة الوطنية وإحداث انقلاب آخر على القانون والشرعية، أدى إلى تعطيل بعض مواد الدستور وتعيين حكومة جديدة لم تنل ثقة المجلس التشريعي وانتهى الأمر بإعلان الطلاق بين فتح وحماس، وكانت تلك هي الهدية العظمى واللحظة النادرة التي انتظرها طول الوقت الأمريكيون والاسرائيليون ومن لف لفهم فاحتشد هؤلاء وراء مجموعة أوسلو وسلطة رام الله، ليس محبة في الرئاسة أو انحيازا إلى فتح ولكن لأن مساندة ذلك الفريق تعني لديهم القطيعة مع حماس وما تمثله وتعني في الوقت ذاته تنحية دعاة المقاومة وإخراجهم من الساحة السياسية، ليخلو الأمر لصالح دعاء التسوية السلمية والتنازلات المجانية.

ما ينبغي أن يثير انتباهنا في المشهد أن حماس وهي في السلطة أبدت درجة عالية من المرونة حين قبلت بإقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة في عام 67 وحين عمدت الى التهدئة والتزمت بها لأكثر من سنة. فلم يقم جناحها العسكري بأية عمليات ضد اسرائيل وكان كل ما تطمح إليه في ذلك أن تكون التهدئة متبادلة وذهبت إلى أبعد حين دعت الى إقامة هدنة مع إسرائيل لأجل يمكن أن تمتد لعشر سنوات لكن ذلك كله لم يشفع لها، وظلت حماس حركة «ارهابية»، لمجرد أنها منسوبة إلى المقاومة، ولأنها تتحدث عن تهدئة متبادلة، في حين أن اسرائيل تريد «تهدئة» تشل يد المقاومة أو تقطعها وتطلق يد اسرائيل. فتستمر في الاجتياحات والقصف والاغتيالات وتلك مواصفات «الاعتدال الفلسطيني» في القاموس الاسرائيلي والأمريكي.

إن البعض يتصور أن حماس هي المشكلة، ولكن الأمر ليس كذلك لأن أي باحث منصف إذا دقق في الأمر بجد فسوف يكتشف أن المقاومة هي جوهر المشكلة، فاسرائيل تريد تركيع الفلسطينيين وإجبارهم على التسليم بما تريده، وكل من يعارض هذا الاتجاه يجب أن ينفى أو يسحق، وهو إما إرهابي أو معاد للسامية. وهذا الكلام ليس من عندي، فقد عبر عن ذلك رئيس الوزراء ايهود باراك في كلمة القاها يوم 24/1 الحالي أمام لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست الاسرائيلي وقال فيها «إن العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش والضغوط الاقتصادية التي تمارسها الحكومة على الفلسطينيين في غزة تهدف إلى إقناعهم بضرورة التخلي عن خيار القوة في مواجهة إسرائيل». وأضاف أنه «يجب أن يستمر الضغط على الوعي الجمعي الفلسطيني بكل السبل لكي يدركوا جيداً أنهم لن يستطيعوا أن يحققوا أي انجاز في تعاملهم مع اسرائيل من خلال القوة». إن البعض يبسطون المسألة ويتولون تسطيحها حين يتساءلون ماذا تريد حماس، بما يوحي أن الصراع بين حماس وفتح أو بينها وبين اسرائيل. في حين أن موضوع الصراع الحقيقي هو عنوان المقاومة التي ترفض الركوع ولا تريد دولة فلسطينية تكون ذيلاً لاسرائيل أو راعية لمصالحها ومخططاتها. إن شئت فقل إنه من بين المشروع الوطني الفلسطيني ومشروع الالحاق والتبعية لاسرائيل وهذا المشروع الأخير جزء من الخرائط التي ترسم للمنطقة مستثمرة حالة الوهن التي تمر بها الأمة العربية، ومستهدفة تطويعها بالكامل لتبقى حبيسة بيت الطاعة الأمريكي. والشواهد الدالة على ذلك لا تعد ولا تحصى، بحيث لا يطلب من أي أحد يريد أن يرى الحقيقة إلا أن يفتح عينيه جيداً على ما يجري حولنا وما يدور في الكواليس وتحت طاولات المفاوضات الجارية.