عن عمرو موسى ولبنان؟!

TT

أشفقت كثيرا على الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى قبل سفره إلى لبنان وبعد أن عاد. وسبب الشفقة شخصي أولاً وهو أنني من هؤلاء الذين يختلفون مع عمرو موسى كثيرا ولكننى أحترمه وأقدره طول الوقت. ومصدر الاختلاف أن الرجل يمشى شوطا أبعد بكثير في الإيمان بالفكرة القومية العربية ومركز مصر فيها مما أمشي؛ أما مصدر التقدير فإن الرجل لديه كم هائل من الكاريزما الشخصية والخبرة والثقة بالنفس ما يجعله يأسرني دائما بحوارات استراتيجية يكون فيها الاختلاف فعلا من النوع الذي لا يفسد للود قضية. ومن هذا المنطلق فقد كنت من المعجبين بأدائه الرفيع في جمع مجلس الجامعة العربية من أجل لبنان حتى تم التوصل إلى قرار بالإجماع، وبدأ الإشفاق مع رحلته إلى لبنان، وساعتها تمنيت أن أكون مخطئا في تقديري بحتمية الفشل، من اجل لبنان، ومن أجله أيضا. وهكذا فإن سبب الشفقة لم يكن شخصيا فقط، وإنما موضوعيا أيضا يتعلق بلبنان الشقيق الذي وصل إلى حافة الهاوية منذ بضعة شهور عندما فشل في اختيار رئيس للجمهورية، وقبلها عندما فشل في أن يكون لديه مجلس وزراء يعمل، وعندما توقف البرلمان عن العمل، وفي الحالتين لأن المعارضة قررت الإضراب عن المشاركة. وكان معنى ذلك عمليا أن لبنان توقف عن أن يكون دولة، وما كان جاريا فيه كان مجموعة من الوظائف التي يقوم بها المجتمع من أول المحاكم والمدارس وحتى مكاتب البريد ومحلات السوبر ماركت. وهي حالة فريدة على أي الأحوال تنتهي فيها الدولة ويبقى المجتمع قائما بوظائفه عند درجة عالية من الخوف وانعدام الأمان وانتظار المجهول الممتلئ بالشك واختفاء اليقين. ولكنها حالة ليست بالضرورة قابلة للاستمرار، لأن الحالة أشبه بمريض بات يعيش على استمرار وظائفه اعتمادا على بطاريات كهربية قابلة للنفاذ، وهو ينتظر لحظة عودة التيار الكهربي الذي لا يعود. وعندما يحدث الشلل في الأسواق، وتجرى الهجرة من جانب السكان إلى أركان المعمورة الأربعة، ومعها تسافر الأموال والمواهب والثقة العالمية، فإن لبنان يصبح على شفا حفرة كلها نار ودم.

وربما كان كاشفا عن الحالة اللبنانية ما جرى عندما أطلق السيد أحمد أبو الغيط وزير الخارجية المصري مجموعة من التصريحات داعيا فيها اللبنانيين إلى الالتزام بالقاعدة الديمقراطية التي تقول بحكم الأغلبية والتزام الأقلية. فقد اندفع اللبنانيون، أو جماعة منهم، في عملية رفض فورية تدافع عن الشرف الديمقراطي اللبناني الرفيع في مواجهة الاستبداد المصري التليد، وتطالب وزير خارجيتنا بأن ينظر لمصر أولا قبل أن يعطي دروسا في الديمقراطية للشعب اللبناني. لاحظ هنا أنه في ذات اللحظة التي جرى فيها هذا لم تكن هناك دولة لبنانية من الأصل، سواء كانت ديمقراطية أو مستبدة، ولاحظ أيضا أنه في ذات اللحظة كانت كل القوى الدولية والإقليمية تعبث بلبنان وعفته، ولاحظ أيضا أنه كان في هذه اللحظة وقبلها كانت جماعة رئيسية لبنانية هي حزب الله تحمل من السلاح ما يفوق الجيش اللبناني كله وتخوض حروبا إقليمية وتجري مفاوضات وتعقد اتفاقيات وتدير دولة داخل الدولة، وكل ذلك بعيدا عن الدولة اللبنانية كلها بأغلبيتها ومعارضتها. ولكن كل ذلك لم يكن مقلقا للنخبة اللبنانية، وما كان مزعجا لها بشدة أن يصدر وزير الخارجية المصري تصريحا يخص ديمقراطية لبنان، ومن ثم لم يكن متوقعا بأي معنى أن يحصل عمرو موسى على ما هو أكثر. فقد كان تصور الأمين العام أنه قد أعد لكل شيء عدته، فهو قد جمع العرب، وحصل على قرار واضح وشامل وكامل، وأكثر من ذلك حصل على الموافقة السورية حتى يكون لدمشق رأي وإرادة في القضية اللبنانية. وعندما حط الأمين العام في أرض بيروت تصور أن معه مخرج لكل الأطراف من المأزق الذي وصلوا إليه تحت راية الالتزام العربي؛ وكان في جعبته أن سوريا لا تستطيع إتلاف مهمته لأنها سوف تستضيف مؤتمر القمة العربي القادم ومن صالحها أن تتوصل إلى تسوية للأزمة اللبنانية قبلها حتى تحصل على كل البركات العربية وهي مهمة لدولة يحكمها حزب البعث العربي الاشتراكي المؤمن تماما بالأمة العربية ذات الرسالة الخالدة.

ولكن عمرو موسى، وللأسف، نسي أمورا، أولها أن محاولة حل الأزمة اللبنانية جاءت فورا بعد زيارة الرئيس الأمريكي جورج بوش إلى المنطقة في هجوم دبلوماسي وسياسي يخص تنفيذ مبادرة أنابوليس وعزل إيران ومعها بالتبعية سوريا وتقوية العلاقات مع المعتدلين العرب، وكل ذلك كان يحتاج رد فعل من كل القوى الراديكالية في المنطقة. وبقدر ما كانت غزة مسرحا طبيعيا للتصعيد، كانت لبنان هي الأخرى ساحة منطقية للإحباط، وربما كان إحباط مهمة عمرو موسى هي الأخف والأقل دموية، فهناك دائما في جعبة حزب الله جثثا يستطيع الكشف عنها، وحروبا يستطيع شنها. وثانيا، نسي عمرو موسى أيضا أن لبنان أصبح بالنسبة لسوريا رهينة مجموعة من القضايا الخاصة يقع في مقدمتها قضية المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة المتهمين في اغتيال رفيق الحريري؛ والقضية الخاصة بالجولان المحتلة التي لا يريد أحد في العالم أن يتحدث عنها بينما القضية تضع محاضرات دمشق حول الشرف القومي موضع المساءلة. وفي كل الأحوال فإن لبنان يبقى قضية سورية خاصة، وكان الخروج منها نتيجة ثورة الأرز مهينا ومحرجا، وجاء اليوم الذي ترد فيه سوريا على من أخرجوها بأنها بالفعل لم تخرج البتة!

نسي عمرو موسى كل ذلك عندما ذهب إلى بيروت، أو ربما كان يعلم كل ذلك ولكن كانت لديه ثقة بالغة في توجهاته القومية التي تقطع أنه مهما كان التخلف العربي فإن الدم لا يكون ماء أبدا، ولا بد أن للقرارات العربية بعضا من هيبة وحرمة. ولكن عمرو موسى فشل في لبنان فحاول إنقاذ المهمة في دمشق، وعندما لم ينجح مرة ثانية صرح بأن ذلك سوف يجعل القمة العربية القادمة صعبة، ولكن الرد جاءه سريعا من غزة، فأصبح عليه أن يعقد اجتماعا عربيا آخر، ويصدر قرارات عربية أخرى تضاف إلى قرارات سابقة، وتنتظر قرارات لاحقة. ومع ذلك فإن عمرو موسى يظل موضعا لاحترام بالغ، ليس فقط لأنه أمين الجامعة العربية الذي حاول تأدية واجبه، ولكنه ينتمي إلى تلك الجماعة من المصريين المؤمنين بشدة بتراث قومي كان وهما في زمانه ولا يقل وهمه الآن عما كان من قبل. وهذه الجماعة المصرية النقية لديها حالة من الإيمان العربي يجعلها لا ترى الواقع العربي على حاله، وبشكل ما تظن أن ما فعلته حماس في غزة، أو يفعله حزب الله في لبنان، أو سوريا في الواقع العربي، مجرد أخطاء سياسية، أو ربما بسبب الضغوط الخارجية الشديدة التي تدفع أطرافا عربية إلى أخطاء حسابية. ولكن هذا الظن ليس في مكانه، والدولة العربية في العموم ليست دائما دولة وفق معايير الدول، وفي كثير من الأحيان فإنها ليست عربية بمعنى أنها لا تنتمي إلى المحيط العربي الأوسع بالفكر أو بالمصلحة، وإنما إلى مجموعة من الثقافات الفرعية الطائفية والقبلية والآيديولوجية التي حدث أنها تتحدث اللغة العربية.

فهل عرفتم الآن لماذا أشفقت على عمرو موسى؟!