توني بلير.. أوهمني أمراً!

TT

لا شك أن التبدل المذهبي لرئيس الوزراء البريطاني السابق، وحزبه ما زال في السلطة، لا يمر بعافية لو كانت دولته دينية. تعتمد مذهباً رسمياً في الحكم، مثلما كان تاج مملكته يُعد، منذ هنري الثامن (ت 1547)، رأساً للكنيسة الإنجليكية ذات الفروع البروتستانية، كمذهب حاكم وليس على ما هو حاضر المملكة. فيوم تحول الملك المذكور عن المذهب الكاثوليكي (1534) عمّمَ مذهبه على البلاد والعباد. ولا تهم دوافع بلير ومبرراته: أهي لأجل عائلته الكاثوليكية أم قناعة وديانة! إنما السؤال: هل تقدم وهو رئيس وزراء، وعلى الرغم من دولته المدنية، من إعلان كثلكته؟ وهل ستكثر حوله الأراجيف؟ لا ندري! فلكل مقام مقال! كان السائر «الناس على دين ملوكهم»، حسب ابن الطقطقي (ت 701هـ) في الفخري، و«الناس على دين الملك» حسب ابن خلدون (ت 808هـ) في المقدمة. ولشهرة الثاني عُدَّ القول من لدنه. وبهذا يكون إفشاء المذاهب عبر ملك أو سلطان ثم يصبح وراثة. ومَنْ تأمل الأمر بعقلانية لا يجده يستوجب سفك الدماء، كونه إرادة سلطة تصيب وتخطئ! وفي شرقنا المسلم لتبديل المذاهب ملاحم: حمل الفاطميون (358 ـ 567هـ) مصر على التشيع الإسماعيلي، ثم أرجعها صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ) إلى التسنّن الشافعي. وحملَ الصفويون (1501 ـ 1736) إيران على التشيع الإمامي، فحاول نادر شاه (قُتل 1747) الحياد بتسمية المذهب الخامس، لكنه قُتل قبل التمكن. وجعل العثمانيون (1453 ـ 1923) الآفاق على التسنّن الحنفي، بعد انتشاره في العراق وإيران، عبر القضاة من أحفاد أبي يوسف (ت 182هـ). ومن بين البلدان حافظ العراق، إلى حد ما، على توازنه المذهبي بخلاف رغائب الصفويين والعثمانيين! أما المغول فتبدلوا من الحنفي إلى الشافعي فالشيعي. وكاد خلاف الفقهاء يسحبهم من الإسلام، وقيل كان سبب تفكير السلطان ألجياتو (ت 716 هـ) بالانسحاب من الإسلام هو حدة الجدل بين الشافعية والحنفية، حتى أقنعه أبو المطهر الحلي (ت727 هـ) بالتشيع، وقيل صنف لأجله «منهاج الكرامة»، الذي رد عليه معاصره ابن تيمية (ت 728هـ) بكتاب «منهاج السُنَّة النبوية». وهنا حسب المبدأ السالف: «الناس على...» تحولت الدولة بزعامة ألجياتو إلى التشيع بغمضة عين، ثم عادت، وبأمره، إلى التسنّن بغمضة عين أيضاً.

وفي أحوال فُسر التبدل المذهبي بمعاملة النساء، فمثلما قيل إن هنري الثامن خرج عن الكاثوليكية بسبب عدم موافقة الكنيسة على طلاق زوجته، قيل إن أحد أسباب تحول ألجياتو هو طلاق زوجته ورغبته بعودتها إليه من دون مُحلل (التنكابني، قصص العلماء). كذلك كانت معاملة المواريث وراء تحول عدد من أصحاب الثروات إلى المذهب الشيعي، فللبنت الواحدة، أو الأخت، النصف من الميراث (السيستاني، منهاج الصالحين).

ومن غير تحول المصلحة، أو إرادة السلطة، قيل تحول علماء كبار بتأثير أساتذة، مثل الطوسي (ت 460هـ) مؤسس الحوزة بالنجف، وكان تلميذاً للشيخ المفيد (ت 413هـ). يُذكر أنه «فقيه الشيعة ومُصنفهم. كان ينتمي إلى مذهب الشافعي (ثم) قرأ الأصول والكلام على.. المفيد فقيه الإمامية» (السبكي، طبقات الشافعية الكبرى).

ولا يخلو تبدل المذهب من طرافة: يذكر أن الدَّهان النحوي (ت 532هـ) «كان أولاً حنبلياً، ثم أن الخليفة طلب لولده حنفياً يعلمه النحو، فانتقل إلى مذهب أبي حنيفة، ثم شغر تدريس النحو بالمدرسة النظامية، وشرط الواقف (نظام المُلك) أن لا يفوَّض ما يتعلق بها إلا شافعي، حتى الفراش والبواب، فانتقل الوجيه إلى مذهب الشافعي وتولاه». فداعبه أبو البركات التكريتي (ت 599هـ) بأبيات: «تمذهبتَ للنعمان بعد ابن حنبلِ.. وذلك لما أعوزتك المآكلُ.. وما اخترت رأي الشافعي ديانةً.. ولكن لأن تهوى الذي منه حاصلُ.. وعمَّا قليل أنت لا شكَ صائرُ.. إلى مالكٍ فأفطن لما أنا قائل» (الأسنوي، طبقات الشافعية)! وكان المقصد بمالك حاجب جهنم لا الإمام ابن أنس (ت 179هـ)! ما يخصنا ويؤذينا أمر منطقتنا وحاضرنا! أمسى الخروج فيها عن العصبة، لقناعة أو لمصلحة، عاراً وشناراً، كسالخ جلده! وربما يطوله حد الردة! والأمر يعود إلى الانقياد الأعمى! وهذا ما لا يعني ويقلق توني بلير ومواطنيه بظل دولة تستوعب المذاهب والقناعات كافة. والأهم من هذا أنه جعل تبديل مذهبه قضية خاصة، لم يفعلها وهو في رئاسة الدولة، أو يوحي من موقعه بقناعاته الشخصية، مثلما فعل الأولون والمتأخرون من ولاة أمورنا. فظهور مسؤول كبير في الدولة، أمام شاشات التلفزيون، ممارساً الطقوس الصوفية، أو باكياً لاطماً في مجلس عزاء، فيهما الإيحاء بمذهبية الدولة، وشحذ ولاء العامة.. مع بؤس أحوالها.

[email protected]