أينما تنقل الاستاذ محمد حسنين هيكل نقل معه حالة فريدة من ألمعية الصحافة العربية. كاتبا او محدثا، لم يستطع صحافي عربي آخر في نصف القرن الماضي، ان يجمع حول نفسه من القراء أو السامعين، كما فعل هيكل. ولم تنقل صحف العالم عن صحافي عربي بقدر ما نقلت عن هيكل، يوم كان الى جانب جمال عبد الناصر وبعد حوالي اربعين عاما على غيابه. والحقيقة ان الناصرية لم تعد سوى ذكرى بعيدة، لا عضد لها ولا حزب إلا في صنعاء. وربما ايضا في تعز. اما هيكل، الذي كان مفكرها ومنظرها، فهو في كل مكان، يثبت قدرة غير مسبوقة على البقاء في الضوء.
ولا يزال اسم هيكل يجتذب الناس في كل مكان. وإذا اعطى اسمه لمطبوعة او فضائية، ضمنت لنفسها الرواج والنجاح. فعندما انشئت مجلة «وجهات نظر»، وهي مجلة أدب وثقافة وبحث، أي ثلاثة أعداء العرب، استطاعت بسبب مقال هيكل ان توزع اكثر من جميع المجلات العربية. وعندما «انصرف» عن الكتابة فيها تراجع توزيعها، مع ان مستواها الراقي ازداد رقيا. وإذا اختار ان يستبدل الكتابة وألقها ومرجعيتها ومكتبتها وطبيعتها في البقاء ضمن متناول الناس، لينصرف الى أضواء التلفزيون، اعطى «الجزيرة» مسندا مهنيا وبعدا قوميا يسحب خلفه نصف قرن، وهدوءاً لا صراخ فيه ولا ديوك مكسيكية.
من خلال استعادته لسيرته الذاتية، استعاد هيكل احداث وفصول المرحلة. ليس كصحافي جذاب الأسلوب، يعرف تماما كيف يجمع بين المعلومة والصياغة، وانما كمؤرخ، يطرح على سامعيه، قضايا في منتهى الخطورة والأهمية، ومنها على سبيل المثال، قضية «الأمن القومي» التي يقدم فصولها حاليا، في مرحلة تبدو الأمة منزلقة نحو التفكك والخراب. ويفضل الاستاذ هيكل استخدام مصطلح «الاقليم» بدل الأمة او «المنطقة»، وهو للأسف لا يفي بالغرض في اللغة العربية كما هو باللاتينية. ولكن تأثير هيكل لا يرد، بحيث ان عددا هائلا من الصحافيين والمتكلمين اصبحوا يستخدمون المصطلح، ظنا ان المصطلح يصنع الكاتب، او ان الفصاحة تصنع المقال. عندما أكتب عن الاستاذ هيكل، أكون قد اخترت أصعب وأعقد المواضيع التي اكتب فيها. واكتب عادة بسرعة تتجاوز طاقتي على التدوين، ولكن عندما أكتب عن الاستاذ هيكل تمثل أمامي عدة اعتبارات جوهرية، أولا مكانته في المهنة التي هي مهنتي، وثانيا الود الذي ربطني به على مدى السنين، وثالثا «الشهادة» التي منحني إياها في مقدمة أحد كتبه. وبرغم هذه الصعوبات الماثلة، يرى الصحافي نفسه أحيانا مدفوعا للنقاش، خصوصا اذا كان هيكل واضح المستوى.