الأمن القومي العربي: عبور البحر الأحمر

TT

الفارق بين الصحافي والمؤرخ كالفارق بين الطبيب والجراح. الأول يقوم التشخيص على اجتهاده ومعارفه وأخيرا رأيه. الثاني لا مكان لشخصه أو رأيه في الموضوع: أمامه حقيقة يجب أن يغوص فيها. أقل إحالة خطأ وأصغر تغافل مصيبة. وكتابة التاريخ تحتمل وجهة النظر لكيفية التدوين. وهذا حق من الحقوق. فالمؤرخون السوفيات كتبوا مرحلة ستالين وفقاً لرؤيتهم، كما دوَّن الغربيون المرحلة نفسها استناداً لما بين أيديهم. لكن هذا يعني أن الفريقين صادقان، بل حسنا النية، ولكنهما يفتقران إلى ناحية أساسية جداً في كتابة التاريخ: الموضوعية.

ليس هناك صحافي عربي يملك قدرات ووسائل البحث التي يملكها هيكل. وفي برامجه الأخيرة بدأ يعتمد اعتماداً شديداً على «الوثائق» الغربية. وهي نوعان: الأول، ما يكتبه السفير أو الديبلوماسي إلى حكومته، حول حدث ما أو شخص ما. والسفير يعتمد في تقاريره، بدوره، على قراءات عامة أو عملاء خاصين. والجميع: السفير والقراءات والعملاء، قابلون للصواب والخطأ. أما النوع الثاني من «الوثائق» فهو نصوص اللقاءات والمفاوضات والمحادثات والاتفاقات، ولا تأويل فيه ولا تحليل ولا اجتهاد.

اذن، كلمتان مفتاحان: الموضوعية و«الوثائق». من خلالهما أحب أن أطرح على الاستاذ هيكل بعض الأسئلة في قضايا تابعتها عن قرب بعيد، كصحافي ناشئ وعادي، وتابعها صاحب السيرة، عن قرب شديد ومن موقع شديد الخصوصية والأهمية. ويتعلق ذلك بمرحلة شديدة الأهمية من التاريخ العربي المعاصر، وهي مرحلة لا تزال في ذاكرتنا وأمامنا، وأمامنا أيضاً جميع وثائقها وجميع حقائقها، وخصوصاً أمام باحث في قدرات وطاقات هيكل.

ان هيكل الصحافي والسياسي والصديق الذي كان ينادي عبد الناصر «جيمي»، لم يغفر للملك فيصل بن عبد العزيز انه ألحق الهزيمة بحملة عبد الناصر في اليمن. ولكن بعد أربعة عقود، ألا يعتقد هيكل المؤرخ، أن تلك الحرب كان فيها فريقان ومجموعة حقائق لا حقيقة واحدة، وكان فيها بادئ ومدافع، وكان فيها حاكم جالس في بلده وحاكم آخر يعبر البحر الأحمر، بجيوشه وطائراته وسفنه، واذاعاته وصحفه، لمقاتلة رجل خفيض الصوت، لا أساطيل جوية أو بحرية، ولا اذاعات مزلزلة، وكان كل خطيئته الصمود، والدفاع عن بلده وشعبه.