بعد أحداث غزة: هل تعود مصر إلى «القطاع» والأردن للضفة الغربية ؟

TT

شيء طبيعي ومتوقع أن يبادر بعض الذين يتابعون الوضع الفلسطيني عن كثب، بمجرد سقوط الجدار الحدودي بين رفح الفلسطينية ورفح المصرية، إلى استحضار ما كان قائماً بين قطاع غزة ومصر وما بين الضفة الغربية والأردن قبل حرب يونيو (حزيران) عام 1967، فعندما تتردى عملية السلام على هذا النحو، وعندما تصل الحالة الفلسطينية إلى الحضيض، فإنه أمرٌ يجب ألا يكون مستغرباً أن تنتعش مفاهيم وسياسات ما قبل إجماع العرب في قمة الرباط العربية في عام 1974 على أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد لشعب فلسطين وإجماعهم على حق تقرير المصير لهذا الشعب وحق إقامة دولته الفلسطينية المستقلة المنشودة.

ما كان من الممكن تفسير ما حدث، عندما اندفع أهل غزة بعشرات الألوف ليدمروا الحدود مع مصر ويجتاحوها، على نحو ما جرى، بينما بقيت الأجهزة الأمنية المصرية تراقب المشهد عن بعد ولم تتدخل، إلا على أنه مؤشرٌ على سقوط ما استجد على مدى أربعين عاماً، ولتعزيز ما يُقال عن أن عملية السلام التي انطلقت في بدايات تسعينات القرن الماضي وصلت إلى نهاية الشوط، وأن صيغة منظمة التحرير انهارت وأن العودة إلى ما كان قائماً قبل يونيو (حزيران) عام 1967 باتت شراً لا مفر منه إنْ بالنسبة للمصريين أو للأردنيين أو للفلسطينيين.

فهل هذه التقديرات صحيحة.. وهل هناك وراء الأكمة ما وراءها، وهل التطورات ستتلاحق فتسقط «حماس» وتسقط «فتح» ومعهما منظمة التحرير والسلطة الوطنية.. ومع كل هذه الأطر الفلسطينية يسقط الاحتلال الإسرائيلي، الذي ظن الإسرائيليون أنه دائم عندما وصلت «بساطير» جنودهم في حرب يونيو (حزيران) 1967 إلى نهر الأردن في الشرق والى قناة السويس في الجنوب، فيعود كل شيء إلى ما كان عليه وتطوى صفحة تاريخية رُسمت خرائطها السياسية بالويلات والدموع والحروب والدماء..؟!.

إن واقع الحال إنْ في غزة أو في الضفة الغربية يغري بالذهاب إلى هذا الاستنتاج على أنه حقيقة قائمة، فالأوضاع في الضفة الغربية في ضوء الاحتقان المستمر في عملية السلام، حتى بعد مؤتمر «أنابوليس» وفي ضوء إحباط إسرائيل كلَّ محاولات السلطة الوطنية لضبط الأوضاع وفرض وجود الأجهزة الأمنية، ليست أفضل كثيراً من أوضاع غزة، وهذا يجعل كثيرين من الفلسطينيين، حتى الذين لم يعيشوا تجربة الوحدة التي استمرت لنحو عشرين عاماً بين الضفة الغربية والضفة الشرقية في إطار المملكة الأردنية الهاشمية، يفكرون بأن لا خلاص من الحالة المزرية التي يعيشونها سوى بالعودة إلى ما كان عليه الوضع قبل احتلال يونيو (حزيران) عام 1967.

صحيح أن الفلسطينيين، إنْ في الضفة الغربية وإن في غزة، دفعوا ثمناً غالياً جداً من أجل أن يتكلل جهادهم وكفاحهم وتضحياتهم باجتراح حق تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة على الأراضي التي احتلت في عام 1967 لكن خيبات الأمل التي تلاحقت، وأبشعها ما ترتب على انقلاب «حماس» الدموي الذي كان بمثابة حركة انفصالية، جغرافياً وسياسياً، حيث أصبحت هناك دولتان متناحرتان على جلْد الدُّب قبل اصطياده أدت إلى هذا الإحباط الذي جعل هؤلاء يعتبرون أن الخلاص هو بالعودة للماضي الذي ساد لنحو عقدين من الزمن إن بالنسبة لـ «الضفة» أو بالنسبة لغزة.

لا توجد أي ترتيبات بهذا الخصوص، لا بين السلطة الوطنية، التي لها السيطرة الشكلية على الضفة الغربية، وبين الأردن، ولا بين حركة «حماس»، التي بانقلابها أصبحت الحزب المسلح الحاكم في «دوقيِّة» غزة وبين مصر، كل ما في الأمر أن إسرائيل دأبت على إطلاق تسريبات بهذا الخصوص لشعورها بأنه لا مناص من التخلص من اشتداد ضغط استحقاق الدولة الفلسطينية المستقلة على عنقها إلا بالعودة إلى ما كان عليه الوضع عندما كان قطاع غزة يخضع للإدارة العسكرية المصرية وعندما كانت الضفة الغربية جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية.

لم تكن إسرائيل تعتقد، عندما احتلت الضفة الغربية حتى حدود مجرى نهر الأردن في الشرق، واحتلت قطاع غزة حتى الحدود المصرية، أنه سيأتي اليوم الذي يصبح فيه قيام دولة للفلسطينيين على هذين الجزءين من فلسطين التاريخية مطلباً حتى للولايات المتحدة الأميركية.

لكن ما يجب أن يعرفه الذين التقطوا هذه المؤشرات الإسرائيلية، وبدأوا يبنون عليها حيثيات لإدانة الأردنيين والمصريين واتهامهم بأنهم يريدون قطع الطريق على استحقاق الدولة الفلسطينية المستقلة، هو أنه لا مصر ولا الأردن في هذا الوارد وأن هاتين الدولتين المعنيتين بالوضع الفلسطيني أكثر من غيرهما من الدول العربية الأخرى، بحكم عوامل كثيرة من بينها التداخل الديموغرافي والجغرافي، تعتبران أن مجرد الحديث عن هذا الأمر هو تآمر عليهما ولا يخدم إلا التطلعات والمخططات الإسرائيلية.

مصر قبلت بالتقاط جمرة غزة وبتسهيل اجتياح حدود رفح من قبل «الغزيين» الهاربين من جحيم الستة شهور تحت حكم «حماس» الذي لا يشبهه ولا مثيل له إلا حكم حركة «طالبان» في أفغانستان لدوافع إنسانية وبحكم محاددتها لهذه المنطقة، ثم بحكم مسؤوليتها الفعلية السابقة والضميرية والعاطفية اللاحقة تجاه هذا الجزء من فلسطين، ولذلك فالعودة لما كان عليه الوضع قبل احتلال عام 1967 غير واردةٍ وهذا أمر مؤكد ولا رجعة عنه.

لا توجد أي حاجة لمصر بستين كيلومتراً مربعاً هي عبارة عن علبة سردين ينحشر فيها نحو مليون ونصف المليون إنسان، ومصر تعرف أن العودة إلى غزة وفقاً لما كان الوضع عليه قبل أربعين عاماً هي بمثابة وضع قنبلة موقوتة في جيبها... إنه غير ممكن أن تخاطر مصر التي تعاني من صداع الإخوان المسلمين المؤلم باستدراج صداعٍ إضافي هو صداع «حماس»، التي ارتباطها بإيران، وغير إيران، غير خافٍ والتي حولت قطاع غزة إلى بؤرة عنف والى مستودع للأسلحة والمتفجرات التي في حال إلغاء الحدود مع مصر فإنها ستصل حتماً إلى أيدي المتطرفين في الساحة المصرية.

ثم ان ما ينطبق على مصر ينطبق على الأردن، بل إن الأردنيين يعتبرون أن الحديث عن هذا الأمر، حتى مجرد حديث، هو مؤامرة عليهم وهو لا يخدم إلا مؤامرة «التوطين» و«الوطن البديل»، والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني يواصل التأكيد تلو التأكيد على أنه لا حديث عن الكونفدرالية مع الضفة الغربية وأنه لا فيدرالية ولا عودة لواقع ما قبل أربعين عاماً، قبل أن يقرر الشعب الفلسطيني مصيره بنفسه ويقيم دولته المستقلة المنشودة على كل ما احتل من أرضه في عام 1967.

إن هذا الأمر محسوم وبصورة نهائية، فالأردن للأردنيين، وفلسطين للفلسطينيين والدولة الفلسطينية المستقلة هدف أردني أكثر مما هو هدف فلسطيني، ولذلك فالأردن يتمسك باستمرار منظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، ولذلك فإنه يدعم الرئيس محمود عباس (أبو مازن) والسلطة الوطنية بلا حدود، ولذلك أيضاً يرفض دولة غزة ويرفض انقلاب «حماس» وكل ما ترتب عليه، ويرفض فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية.