أزمة المعابر: حديث الوقائع والمسؤوليات

TT

بعيدا عن العواطف المتصارعة، وعن الأغراض الظاهرة والخفية التي لونت في كثير من الأحيان التعليقات المتضاربة التي صاحبت ما سمي بأزمة المعابر وتداعياتها، وفي إطار من محاولة لتفكير هادئ في موقف ليسهل فيه الهدوء لأنه يتعلق بمشاعر وطنية وقومية وإحساس بان هناك مؤامرات متعددة المصادر تحاك بليل، وبان هناك نوايا بعضها سيئ وبعضها حسن تتصارع أحيانا في ظلام حقيقي أو مفتعل وتشتبك خيوطها مع مؤامرات حقيقية أو مفترضة دولية أو إقليمية أو محلية. بعيدا عن كل ذلك أحاول أن ابرز عدة نقاط اعتقد أنها أساسية في محاولة مني للفهم والتقييم بعيدا عن الصخب والتشويه وعن سحب التمويه التي حملت معها أخطارا أتصور أنها تستهدفنا جميعا واعتقد، رغم عدم تفضيلي لنظريات المؤامرة، أنها تعكس مخططات شريرة قد تكون متعددة المصادر ولكنها في النهاية تلتقي عند نقطة على حافة بحور متلاطمة الأمواج ومزالق عميقة الأغوار. وحتى لا استطرد في حديث قد يطول وقد يبدو عاطفيا، فإنني أسارع بتلخيص ما اقصده في نقاط محددة وموجزة..

أولا:

إننا نستطيع أن نتفق على أن المسؤول عن كل ما حدث هو في المقام الأول إسرائيل فان ممارساتها العدوانية وغير الإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني والحصار الذي فرضته على غزة «بمشاركة مؤسفة من الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي»، منذ اليوم الأول لفوز حماس في انتخابات تشريعية كان الغرب هو الضاغط لإجرائها رغم تحفظات فلسطينية، ثم في أثناء تولي حكومة حماس ثم حكومة الوحدة الوطنية التي جمعت بين حماس وفتح بفضل جهود مصرية وسورية وغيرها. ولو كانت أية دولة اخرى قد قامت بمثل هذه التصرفات لقام دعاة حقوق الإنسان في الغرب منددين مستنكرين ومهددين، أما في هذه الحالة بالذات وبعدما وصلت الأمور الى مداها بوقف التيار الكهربائي مع ما ترتب على ذلك من تداعيات لم يكن من المتصور أن يسكت عليها العالم، فإن مجلس الأمن فشل في إصدار مجرد بيان يندد بالطريقة الأفلاطونية المعتادة بتصرفات اسرائيل، وذلك بفضل الولايات المتحدة التي لا تترك فرصة تمر دون أن تؤكد وقوفها الى جانب اسرائيل أو إذا بلغ عدوانها مدى لا يمكن قبوله – دون أن تخلط الأوراق ليضيع حتى مجرد الاستنكار الباهت في خضم أمور أخرى ترتبط في الواقع بحق الشعوب في مقاومة الاحتلال بأي سلاح تمتلكه حتى إذا لم يكن فعالاً ولكنه على أية حال تعبير عن التطلع الى التحرر. وأذكر لمن يحتاجون الى من يذكرهم بأننا في مصر كنا وما زلنا نفتخر بحرب الاستنزاف التي أقلقت مضاجع المحتل الاسرائيلي لسيناء ـ قبل حرب التحرير ـ ونقبل ثمنها كواجب وطني. وفي نفس الوقت الذي كانت فيه اسرائيل تمارس هذه البربرية إزاء الشعب الفلسطيني فيعقد لقاءات مع رئيسها لا تبدي فيها أي استعداد حقيقي ـ أو حتى ظاهري ـ للتوصل الى أسس حقيقية لمفاوضات جادة تؤدي الى تسوية. وكان الهدف الاسرائيلي وما زال هو الوقيعة بين الأطراف الفلسطينية ومحاولة زيادة الفرقة بينها.

ثانياً:

كان يمكن ان تؤدي تلك التصرفات من جانب اسرائيل، والمعاناة اليومية لأشقائنا في غزة التي تحمل المواطن العادي فوق ما يمكن احتماله، أن تكون هناك محاولة للتخلص من هذا الوضع وكان أن نظر المواطن العادي الى المنفذ الوحيد الذي يمكن أن يكون متاحاً وهو مصر التي وقفت دائماً مع الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية لاقتناعها العميق بأن مصلحتها الوطنية مرتبطة بالمصلحة القومية، وان أمنها الوطني، وهو قطعا له الأولوية ـ مرتبط بالأمن القومي وانه عندما ينادي البعض منا بشعار «مصر أولاً» فإنه قطعاً لا يقصد عدم الالتفات الى المخاطر التي تأتي عبر الحدود مع الشرق، وقطعاً لا ينبغي تمزيق الصلات الحيوية مع زملاء الجغرافيا والتاريخ. باختصار كان من الطبيعي أن ينظر الشعب الفلسطيني الى مصر التي كانت دائماً السند. وإذا كان ذلك قد ادى الى تصرفات فيها كثير من الرعونة، وإذا كان البعض قد استغل هذا الوضع لتحقيق أهداف معينة، فإن التصرف المصري الحكيم بالسماح للفلسطينيين بالدخول الى أراضي مصر لكي يحصلوا على ما حرمتهم منه اسرائيل ثم يعودوا الى وطنهم كان هو القرار الصحيح المسؤول الذي يؤكد الدور المصري. وبصرف النظر عن تجاوزات حدثت، بتدبير أو بغير تدبير، وبصرف النظر عن أن البعض استغل هذا القرار لأغراض سياسية او تجارية، فإن مصر أثبتت مرة أخرى أنها قادرة على ان تعالج الأمور بحكمة واتزان وحزم في نفس الوقت، وان تتحمل المسؤولية دون أن تتخلى عن مسؤوليتها عن حدودها التي لا يقبل مصري أن يستهين بها أحد أياً كان.

ثالثاً:

إن اخطاء قد ارتكبت من جانب بعض الفلسطينيين، وقد عولجت، ولكن هذا يجب الا يعمينا عن ان الخطأ الأساسي هو خطأ ـ او جريمة ـ اسرائيل ـ كما ان الترتيبات الخاصة بالمعبر وفقاً لاتفاق 25/11/2006 كانت ترتيبات قاصرة. فقبل اغلاقه نهائياً في يونيو 2007، كانت اسرائيل تتسبب في اغلاقه ـ وفقا لإحصائيات أتيح لي الاطلاع عليها ـ 85% من الأيام. كما أن الاتحاد الأوروبي الذي كلف مراقبة المعبر بحيث لا يفتح إلا في حضوره ـ لم يقم بأي جهد حقيقي في هذا الشأن بل كان سلبياً الى درجة لا اعتقد انها تليق بدول تشعر ان عليها واجب المساعدة في خلق الأجواء المناسبة التي تخفف عن شعب يعاني من احتلال غاشم وبغيض.

والمهم في هذا الصدد ان توضع ترتيبات جديدة للمعبر، تضمن ألا تكون أبواباً لسجن كبير يترك فيه سكان غزة يعانون من اجراءات قمعية وغير إنسانية تحت احتلال غاشم ولا أتصور انه يمكن وضع مثل هذه الترتيبات إلا باتفاق بين الفلسطينيين أنفسهم لتجاوز الانقسام غير المبرر بين فتح وحماس الذي لا يخدم إلا مصلحة اسرائيل. ولا يجدي في هذا الصدد تبادل الاتهامات ووضع الشروط المسبقة، وكان من المفروض ان يقبل الطرفان الدعوة الكريمة التي وجهها لهما الرئيس مبارك للحوار في مصر. ولا يمكن أن أفهم سبب رفض فتح الحوار إلا بشروط ليست فقط تعجيزية بل هي لا تتسم بالواقعية حيث أن الأخطاء متبادلة، ومخالفة لشروط الوفاق الوطني مشتركة ليس هناك طرف بريء منها، والحديث عن الانقلاب يمكن أن يكون منطبقاً على تصرفات من الجانبين. ومهما يكن فإني أثق في وطنية زعماء الجانبين وقدرتهم على تجاوز ماض أثقاله في عنق الطرفين، من أجل مصلحة الوطن الذي ما زال تحت التكوين مع أنه يجب أن يكون حياً في ضمير كل مواطن فلسطيني أياً يكن انتماؤه وموقفه.

رابعاً:

بقي ان نشير الى ما ألمحت إليه من وجود مؤامرات ومخططات اسرائيلية خبيثة تستهدف مصر وكشف عنها الغطاء في بعض الكتابات الحديثة. ومنها اقتطاع أجزاء من سيناء لضمها إلى دولة تقام في غزة، ومنها دفع الفلسطينيين الى سيناء لإقامة دولة مستقلة على أرضها. وإذا كانت كل هذه المخططات تبدو غريبة، ولا أتصور ان الفلسطينيين انفسهم أو أي فريق منهم يقبله، فإن هناك شكوكاً بأن الضغط الفظيع على أهل غزة كان يستهدف ضمن ما يستهدف دفعهم في اتجاه الأراضي المصرية بطريقة قد تؤدي في تصورهم إلى وقيعة بين الشعبين المصري والفلسطيني وهو ما أمكن تجنبه وسوف يمكن دائماً تجنبه بفضل حكمة ويقظة الجانب المصري وأيضاً الحكماء على الجانب الفلسطيني. ومع ذلك فإنه من المهم أن ندرس بعمق تلك المخططات الاسرائيلية التي هي جزء من مخططات لمزيد من التفتيت ومزيد من الوقيعة بين الشعوب. ويحضرني في هذا المقام أنه عندما استدعى الرئيس السادات في يناير 1978 الوفد المصري من المباحثات التي كنا نجريها في إسرائيل بحضور الأمريكيين، جلسنا في مطار بن غوريون وكان في وداعنا موشى ديان وزير الدفاع حينئذ. وقد انصب حديثه طوال الوقت على أن اسرائيل تود تسليم غزة إلى مصر. ومثل هذا الحديث ما زال يتردد من وقت لآخر في إسرائيل، وفي تقديري انه يحمل في طياته عناصر من المؤامرة التي أشرت إليها والتي أثق في أننا جميعاً فلسطينيين ومصريين بل كل العرب منتبهون لها باعتبارها جزءاً من مخططات يفرزها باستمرار الفكر الإسرائيلي المتآمر الذي يبحث دائماً عن مشاكل يختلقها لكي ينشغل الآخرون عن مخططات تدبر في الخفاء رغم معاهدات السلام ومعسول الكلام.