أعط بيدك اليمنى من دون أن تعلم اليسرى

TT

بينما كنت جالساً على أحد الكراسي أمام شاطئ البحر، لفتت نظري ثلاثة من الغربان، وفي منقار أحدها شيء أظنه سمكة صغيرة، ثم قذف بها في الهواء، وقبل أن تسقط أمسكها بمخالبه، ثم صفق بجناحيه مرتفعاً إلى الأعلى في الوقت الذي لحق به الغرابان الآخران يتناوشانه وهما يصيحان، فما كان منه إلاّ أن يطلقها، فانقض عليها في الهواء أحد الغرابين وأمسك بها وهو يتقلب في الفضاء، ثم أطلقها والتقطها الثالث وهو ينعق بحبور، وأخذ الثلاثة يتداولونها ويتناقلونها لمدة تقارب الربع ساعة في نفس المكان ونفس المجال.. وبعد أن أنهكوا واكتفوا من ذلك، تركوا ذلك الشيء يسقط وانطلقوا مبتعدين إلى أن اختفوا عن ناظري.

فقمت من مكاني لأشاهد ذلك الشيء الذي ألهب حماسهم لأتبين أن ذلك الشيء لم يكن سمكة، كما توقعت، وإنما كان مجرد عود صغير ناشف.

وعرفت أن تلك الغربان إنما كانت تلعب وتتسلى ليس إلا، وقدحت زناد فكري التعبان، مستعرضاً ومتذكراً الكثير من الناس الذين لا مكان للعب والتسلية في حياتهم على الإطلاق.

وأعرف أناساً إذا شاهدت الواحد منهم لا يخطر على بالك إلاّ سرادقات العزاء والمآتم، ولو أنك حدثته عن اللعب والتسلية فسوف يحتقرك ناهيك من أن يستخف بعقلك.. معتقداً انك مجرد إنسان (فاض، أو مستهتر، أو لا تحترم الوقت) ـ ذلك أضعف الأيمان.

ورغم أنني من الفئة التي تحترم الوقت جداً ـ ولا فخر ـ إلاّ إنني أتوق في بعض الأحيان للعب واللهو والتسلية، بل وأمارسها بشغف ومن دون تحفظ.

فليس هناك أروع من أن تنتصر في لعبة ضد خصمك.. وأحياناً أفضّل اللعب منفرداً مع نفسي.. ولا أكذب عليكم أنني بعد أن شاهدت لعبة الغربان الثلاثة، ما كان مني إلاّ أن التقط أحد الحبال، وأمارس لعبة (نطة الحبل)، وقد نطيت على التوالي عشر نطات متتابعات، ثم توقفت وأخذت شهيقاً عميقاً، وزفيراً أعمق، ثم انطرحت على الأرض.

* * *

في الجمعة قبل الماضية أصر رجل على أن أصحبه إلى صلاة الجمعة في أحد المساجد، وامتثلت لطلبه، حيث انه رجل خير (ومريش) ـ أي انه مليونير بالفعل، لهذا لا أستطيع أن أرد له طلباً، وهو بالمناسبة كثير الصدقات والمساعدات للمحتاجين، وجيوب ثوبه كانت دائماً تمتلئ بالنقود لتوزيعها على الفقراء.

استمعنا لخطبة الإمام وصلينا، وعندما انتهينا ووقفنا وإذا به يخرج (رزمة) كبيرة من النقود من جيبه يريد أن (يدحشها) في جيب عامل باكستاني فقير كان يصلي بجانبه، واعتقد العامل انه لص يريد أن يسرقه، فما كان منه إلاّ أن يمسك بيده صائحاً: حرامي، حرامي، ولم يكتف بذلك، بل إنه وجه لطمة هائلة لوجه المليونير لوحت (صابره).. تجمع الناس حوله وبالكاد افتكوه من قبضة العامل، بعد أن عرفوه.

الواقع إنني لم أتدخل في هذه (الغشنة) ولكننا بعد أن خرجنا وركبنا السيارة، سألته عن فعلته، فقال: إنني أردت أن أعطيه نقوداً بيدي اليمنى من دون أن تعلم يدي اليسرى.

نظرت لوجهه (المعفوس) من شدة اللطمة، ولم أرد عليه.

[email protected]