مستقبل البشرية.. من خلال أزمات البطالة والأمن والمناخ

TT

كان عماد موضوع مقال الأسبوع الماضي هو:(أن أزمة الأزمات التي تواجه الأسرة البشرية ـ فقيرها وغنيها متقدمها ومتخلفها ـ هي: فقدان الرؤية العلمية والفكرية والسياسية البعيدة المدى).

وقد نشأ عن هذا العمش أو العمى الطويل الأمد: أزمات كبرى، رتبناها في الأسبوع الماضي ـ وفق أسبقيتها وخطرها ـ على النحو التالي: الأزمة الاقتصادية.. وأزمة البطالة.. والأزمة الأمنية.. وأزمة المناخ.

ولئن كان المجال لم يتسع في الأسبوع الماضي إلا لواحدة منها وهي الأزمة الاقتصادية، فإن مقال اليوم ينتظم الأزمات الثلاث الباقية باختصار شديد، حيث إن كل أزمة منهن تقتضي ـ حين البسط ـ مقالا كاملا أو أكثر:

1 ـ أزمة البطالة، وهي بلا شك نتاج للأزمة الاقتصادية، لكنها أفردت في بند خاص لخطورتها الشديدة جدا وفداحة آثارها: على الأفراد والأسر والمجتمعات.. نقرأ في التاريخ الأوربي الذي صنع مناخ الثورة البلشفية: ان عصر الثورة الصناعية كان أشد مراحل التاريخ الأوربي بشاعة. فحينما توحدت صفوف الاقطاعيين القدماء والرأسماليين الجدد: استطاعوا معاً، وبما لدى الحكومات من وسائل عنف، استطاعوا تقويض القيم الاجتماعية القديمة العريقة، والقضاء على النظام (الحِرَفي)، وعلى الحقوق العرفية التي كانت تضمن للعمال والفلاحين حدا أدنى من المعيشة المناسبة ـ على الأقل ـ.. وحينما استطاعت هذه القوى ـ الإقطاع والرأسمالية والحكومات العمياء ـ: إنجاز هذا كله. لم تتسبب في بؤس الملايين البشرية وشقائها فحسب، بل تسببت هذه القوى البليدة في اندلاع حركات مضادة، ما كانت أممهم قادرة على التحكم فيها: حركات أدت قواها التدميرية الى انهيار نظام التجارة الحرة الحديث العهد، والى حربين عالميتين، والى ارتقاء الشيوعية سدة الحكم في روسيا، وفي الشق الشرقي من أوربا (راجع هربرت فيشر في: تاريخ أوربا في العصر الحديث).

(بؤس) الملايين الذي سجله التاريخ الأوربي الموثق له مصدران:

أ ـ الأجور المتدنية جدا التي لا توفّي بـ 15% من حاجات العامل: الغذائية والسكنية والصحية.. الخ، والتي لا تساوي 8% من حقيقة وثمار جهده المبذول في العمل.

ب ـ المصدر الثاني هو (البطالة). فكيف هو الحال الآن؟.. ثمة زيادات متصاعدة في البطالة، وانخفاض متلاحق في أجور الذين يحصلون على عمل، كما أن هناك تدهورا ملحوظا في مستويات المعيشة.. وهذه الظواهر ليست محصورة في الدول المتخلفة والنامية، بل هي ظواهر متفاقمة ـ أيضا ـ في الدول الصناعية نفسها.. وثمة خبراء اقتصاديون غربيون يرصدون هذه الظواهر ويقولون: يتوقع المهيمنون على مصائر الاتحادات والمؤسسات الصناعية: ان الأمر لن يستمر طويلا حتى نرى في الدول الصناعية أفرادا ينظفون الشوارع بالسخرة، أو يعملون خدما للمنازل بقصد الحصول على ما يسد الرمق.. أما العالم والخبير المختص بشؤون المستقبل (جون نايزيت) فيقول:«إن عصر المجتمعات الصناعية وما أفرزه من مستوى معيشي مرتفع لجمهور المجتمع، ليس سوى حدث عابر في التاريخ الاقتصادي».. وفي الأفق، بل في الواقع الميداني: احصاءات ومؤشرات مخيفة، منها:

ان عدد العاطلين عن العمل سيزيد عن عدد العاملين!!، بل هناك دراسة تتوقع: ان النموذج العالمي الاقتصادي الجديد يقوم على هذه المعادلة: 20% يعملون.. و80% عاطلون عن العمل!!.. وبالنسبة للوطن العربي تثبت الاحصاءات انه يموج بسبعين مليونا عاطلين عن العمل، وهذه نسبة تكاد تساوي 30% من مجموع القادرين على العمل من العرب.

على ان ما تجب دراسته والتحسب التخطيطي له (وفق الرؤية البعيدة المدى) هو: ظاهرة لم تحدث من قبل: لا في تاريخ العمالة، ولا في تاريخ التقدم البشري كله: ظاهرة: ان الجدارة العالية للتكنولوجيا المتقدمة باطراد، تسببت ـ كذلك ـ في تفاقم البطالة عن طريق إعادة الهيكلة، والتخلص من الروتين، وتسريح أعداد كثيفة من الأيدي العاملة.. والتكييف الاقتصادي والحضاري للفقرة الآنفة هو: انه يستحيل إيقاف الترقي المستمر في فنون التكنولوجيا وكفاءتها المذهلة في الإنتاج.. والحقيقة الأخرى المواكبة هي: ان هذا الاطراد المتلاحق ـ بسرعة ـ في الترقي التكنولوجي سيؤدي الى الاستغناء عن جماهير هائلة من العمالة البشرية (يكفي كمثال: ما يحصل في مجال الطباعة من تقدم تقني استغني به عن عمالة كبيرة).

بازاء هذه المعضلة: هل تملك الحكومات والشركات (رؤية بعيدة المدى).. وهل: بناء على هذه الرؤية ـ إن كانت موجودة ـ قد أخضعت هذه الأزمة العالمية ـ المهددة باستقرار الأسرة البشرية ـ للدراسة المعمقة الجادة الناجزة؟.. وهل انتهت هذه الدراسة الى بدائل تطبيقية منها ـ على سبيل المثال ـ أ ـ إعادة تأهيل العمالة من خلال تطوير مهاراتها بسرعة وجودة عاليتين. ب ـ رسم استراتيجيات مستقبلة للتعامل الاستثماري النوعي الجديد مع (الطاقة البشرية الفائضة) عن سوق العمل (بمفهومه التقليدي المحنّط). فالإنسان خلق ليكدح لا ليتبطل:«يا أيها الإنسان إنك كادح الى ربك كدحا فملاقيه».. ومهما تطورت الآلة التقنية، فإنه يتعين تصريف طاقة الكدح هذه فيما ينفع الإنسان، ويفيد مجتمعه وعالمه عبر ابتكار أوعية للعمل جديدة: لم يفعلها من قبل أحد، ولا يكون ذلك إلا بمقتضى رؤية علمية وفكرية وسياسية بعيدة المدى.. أما في حالة (الجمود) على الرؤى العمشاء، أو على العمى الاستراتيجي المطبق، فإن البشرية سترزأ بعاقبتين مزلزلتين.. أولا: سترزأ بعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، فالناس قد لا يجمعون على (السخط) ـ وتوابعه ـ من أجل (القيم المعنوية). إذ إن هناك تفسيرات شتى لهذه القيم تمنع الإجماع، ولكن الناس يجمعون على السخط ـ وتوابعه ـ إذا أصيبت معايشهم بالضيق والبؤس والاختناق.. ثانيا: سترزأ البشرية بارتفاع معدلات نسب العنف: بالجريمة العادية.. أو بالإرهاب.

2 – الأزمة الأمنية.. ودون تقليل ـ أدنى تقليل ـ من ثقل أزمة البطالة نقول: إن (الأمن) هو الحاجة الأولى للإنسان.. لقد استفاض الحديث السياسي والاعلامي والثقافي والقانوني عن (حقوق الانسان).. ووفق منهج ترتيب الحقوق، يظفر (حق الحياة) بالمرتبة الأولى بلا ريب. وهذا الحق يدور مع الأمن: وجودا وعدما، بمعنى أن حياة الانسان مهدرة أو مهددة بالهدر في حالة انعدام الأمن، وعندئذ لا يكون للحقوق الأخرى ـ كالمطعم والمسكن والتعليم والحرية والكرامة ـ: طعم ولا معنى، ولا قيمة واقعية معاشة، إذ كيف يشعر العروسان ـ مثلا ـ بحلاوة اللقاء والحب والأنس: إذا استبد بهما الخوف وهما في البيت أو السوق أو الطائرة أو المتنزه.

ويتهدد الأمن: مهددات عديدة.. فهناك (المهدد الاقتصادي) الناشئ ـ في الغالب ـ عن السلوك الرأسمالي الهارب من مسؤوليته الاجتماعية، ونعني السلوك الذي يتسبب في إنتاج البطالة أو يرفع معدلاتها!.. وفي التلاعب والمضاربة بأرزاق الناس.. وفي توسيع الهوة بين الطبقات.. وفي استنبات التذمر أو السخط العام.. وهناك (المهدد الفكري والسياسي) المتمثل في العنف والإرهاب.. والظاهرة الموجعة في هذا الميدان هي: انه على الرغم من الضجيج العالي عن مكافحة الإرهاب: يتوسع مناخه، ويصعد خطه البياني، وتتكاثر وقائعه.. والسبب الرئيس وراء ذلك هو (فقدان الرؤية البعيدة المدى) لأسبابه وجذوره ودوافعه: تمهيدا لعلاجه واجتثاثه أو محاصرته في أضيق دائرة ممكنة.. وإذا استمر هذا العمى تجاه هذه الأزمة، فإن البشرية ستدلف الى مصائر متلفة مهلكة. فقد لا تعود الشيوعية، ولا النازية، ولا الفاشية بأشكالها وأدواتها السابقة، ولكن من المحتمل جدا ان يظهر ما هو أسوأ منها «!!».. من المحتمل أن يظهر بديل لها: فلسفي وفكري وسياسي ـ بتحوير نوعي وتغيّر في الصورة أو الإخراج ـ.. يظهر ما هو أسوأ منها من حيث التصوير المظلم للواقع القائم والتحريض المطلق على نسفه، ومن حيث القدرة على (التعبئة العلمية)!! بعوامل التوتر والتذمر والسخط، ومن حيث مضاعفة كم العنف والبطش، ومن حيث التنظيمات السرية ـ ذات الشكل العلني الرمزي ـ: المزودة بتقنية عالية في الاستخدام النووي الجزئي، والمزودة كذلك بوسائل الضغط والتخريب، وأساليب تجميع الناقمين في العالم كله ـ على اختلاف بواعثهم ـ في شبكة عالمية تهدد الأمن الدولي، واستقرار الأنظمة، ومدنية الانسان.

3 ـ أزمة المناخ.. ولنبدأ بعبارة مجملة جامعة وهي (إذا فسد مناخ الكوكب: فسد كل شيء على ظهره):حياة الإنسان، وحياة النبتة، وقطرة الماء، ونسمة الهواء.. ومنذ أمد غير قصير: تعقد المؤتمرات، وتتابع الدراسات عن (مرض المناخ)، ومع ذلك يزداد الوضع المناخي سوءا وترديا: عاما بعد عام.. والسبب كذلك ـ ها هنا ـ هو (فقدان الرؤية البعيدة المدى) لهذه الأزمة المرعبة.. نعم. ففي ظل هذا (العمى الكوكبي)، فإن مناخ كوكب الأرض يكاد (يتعفن) من التلوث، ومن الاحتباس الحراري. فهذا المناخ يتعرض ـ بعدٍّ تصاعدي ـ لارتفاع درجة الحرارة. ومن المخاطر المترتبة على ذلك: التهاب سطح الكوكب، وتأثيرات ذلك المنهكة على البيئة البشرية، ومهاد الانسان ومُقامه.. وذوبان جبال الثلج في القطب المتجمد، وغرق الأرضين المنخفضة كافة.. واختفاء الجزر.. وازدياد الأعاصير عنفا وتدميرا.. وتدمير المحاصيل.. واتساع رقعة الصحراء.. وتشريد الشعوب الخ..الخ.

وأولو النباهة اللماحة يلحظون: ان الأزمات الكبرى الأربع: محورها وموضوعها (الإنسان). فالأزمة الاقتصادية ـ ومعها البطالة ـ مرتبطة بمعايشه.. والأزمة الأمنية مرتبطة باستقراره والتمتع بالهدوء والسلام في ذاته ومحيطه.. وأزمة المناخ مرتبطة بـ (مجاله الحيوي) الذي فيه يتنفس، ويتحرك ويعمل، ويأكل ويشرب ويمرح ويلعب.

والتمام ثلاث:

أ ـ أن تكبّر البشرية مخها وهمتها حتى تتأهل للتعامل الكبير البصير مع هذه الأزمات.

ب ـ الاقتناع – إلى درجة اليقين – بأن الأسرة البشرية تعيش في سفينة واحدة، يمكن أن تغرق: إذا سمح مجموع الركاب لراكب شقي بخرقها.

ج ـ التعاون البشري الجماعي الوثيق على مواجهة هذه الأزمات: دون بطء، ولا تسويف، ولا معاذير، ولا أنانية، ولا عمى.