فقه الأسواق المالية: شهادة رسوب للسياسيين

TT

يواجه زعماء العالم الحر، أو الدول الصناعية الكبرى ما يعتقدون أنه اخطر من الحرب على الإرهاب: أي أزمة سيولة نقدية تهدد بشبح كساد يشبه كساد الثلاثينات. فمواصلات القرن الماضي مكنت الاسواق من أن تنعزل عن بعضها جغرافياً، ولبضعة أيام يستغرقها وصول السلعة؛ كما حدت من حركة الناس والأيدي العاملة والمستثمرين.

انحصرت الصناعات الثقيلة والمتقدمة تكنولوجياً في أماكن معدودة، كذلك مصادر المواد الخام. كانت تكاليف إنتاج السلعة محددة لحد يمكن معه تقديرها مقدماً.

العالم اليوم قرية صغيرة، تنتقل البضائع من أقصاه لأقصاه في يوم واحد، بل يمكن تصنيع معظم المنتجات في أي مكان، ولم تعد الثروة القابلة للاستثمار حكرا على فئة قليلة أو محصورة جغرافياً. الأموال تنتقل بسرعة البرق عبر شاشات أجهزة الكومبيوتر المصممة خصيصا للتجارة في البورصات وأسواق المال. ولم تعد أوروبا تصاب بالبرد إذا عطست أمريكا، بل العالم كله يصاب بالذبحة الصدرية إذا أصابت الأنفلونزا وول ستريت كما بينت الأشهر الماضية. عندما ظهرت أولى أعراض الإغماء على بنك الائتمان العقاري نورثرن روك، احد أهم بنوك الإسكان في بريطانيا، ذات الاقتصاد الأقوى في العالم الحر، حقنه وزير المالية اليستير دارلينغ بمسكنات لحجب أعراض الدوخة والإغماء، ولكن الوصفة أدت لمضاعفات أخطر في الجسم المالي.

العالم المصاب بأعراض الذبحة الصدرية تهرّب من السعي لتشخيص طبي مشيرا إلى أن مصدر العدوى هو الفرنسي جيروم كيرفيل الذي خسر في المضاربات المالية ما يفوق قيمة ثاني اكبر بنوك بلاده.

تحول كيرفيل، في فلكلور اليسار الماركسي، إلى بطل سيركع «النظام الرأسمالي» على ركبتيه.

ذعر الملايين من مدخري القرش الأبيض لليوم الأسود من خسائر كيرفيل وانهيار البورصات حيث تستثمر معاشاتهم، فالسوق المالي يسقط مثقلا بأحمال لا بمسؤولية الإقراض بلا ضمانات، بسبب «جشع الرأسمالية». بنك الاحتياط الفيدرالي خفض سعر فائدة الإقراض مرتين في أسبوع، فانتعش السوق وتنفس المدخرون للمعاشات وأصحاب الاسهم الصعداءَ ونسوا كيرفيل. ونادت لندن على بنك انجلترا بتقليد نظيره الأمريكي، فحكومة غوردن براون مهووسة بفكرة «ضرورة اتخاذ إجراء»، كلما اهتز السوق المالي.

تناقض خطير: كيف يظل السوق حرا إذا ما استمر الساسة في التدخل في ديناميكيته محاولة لتصحيح ما يعتبرونه خطأ؟ علماء الاقتصاد يعلمون تلاميذهم أن السوق مثل كائن حي يتنفس وينهض من عثراته وجهاز مناعته يقاوم المرض.

تدخل الحكومة لـ«حماية» نورثرن روك من السقوط، عبر بنك انجلترا، كلف دافع الضرائب 50 مليار جنيه (100 مليار دولار) لا سبيل لاستعادتها دون تأميم البنك الذي فقد المستثمر الثقة بقدرته على الصمود دون سند الحكومة.

مارغريت ثاتشر قالت قبل عقدين «لا تستطيع أن تلجم السوق» لأنها وعت أن السوق الحر، هو انعكاس للطبيعة البشرية في أقصى مراحل تطور وارتقاء جنس الإنسان، في النظام الديمقراطي الليبرالي الذي يقدس حرية الفرد وحقه في الاختيار، ورفضه أن يملي عليه احد نمط حياة أو ملبس او مأكل ومشرب وفق عقيدة أو آيديولوجية شمولية.

الحرية بالنسبة لي ولك، كالماء والهواء، ولا يمكن ابتزازك، كانسان حر، لتفعل ما لا يشتهيه قلبك تحت ضغط آيديولوجية أو عقيدة أو حتى قانون «فالعقوبات من غرامة المرور حتى الإعدام، لم تمنع مخالفة القانون وارتكاب الجرائم».

الحكومات تحاول تثبيت ما تعتقد أن أغلبية الناخبين يبتغون استقراره، رغم جهل أغلب الساسة بخصائص ما يريدون تثبيته وطبيعته الديناميكية. وهذا يفسر ذعر الساسة من تصرف موظف واحد في بنك فرنسي او من سحب مدخري بنك نروثرن روك لأرصدتهم، وسربوا الذعر لصحفيين سياسيين وليس اقتصاديين.

ارتفاع مستوى الذعر هنا، وتلهف ساسة حكومة العمال على الإمساك بدفة السوق يعود لتأصل الفكر الاشتراكي في تاريخهم، فيقيسون التطورات الاقتصادية بمسطرة Das Capital لكارل ماركس.

النظرية الماركسية تنبأت بانهيار النظام الرأسمالي تحت ثقل تراكم تناقضاته.

الأحزاب الاشتراكية، كحزب العمال هنا رغم ثوبه الجديد، لا تزال تؤمن بآيديولوجية «إعادة توزيع الثروة» تحت لافتات جديدة «كالعدالة الاقتصادية» أو الاجتماعية.

وبعد انهيار الأنظمة الشمولية الاشتراكية، التي دفعت بثلاثة أجيال إلى أحضان الفقر ومعتقلات سيبيريا ومستشفيات المجانين، أخفت الأحزاب الاشتراكية الغربية وجهها بأقنعة مبتكرة ـ كتسمية توني بلير وشركاه للحزب بـ«العمال الجديد» ـ وتشدقت، للناخب، بمصطلحات رأسمالية دون استيعاب مفصليات حركة السوق.

قبلت الأحزاب الاشتراكية الجديدة، الليبرالية الاقتصادية بشرط السيطرة على حركة السوق. تسامحت مع ظاهرة وجود عباقرة اقتصاديين قادرين على خلق ثروات توفر فرص عمل وتدير عجلة الاقتصاد؛ لكن ساستها ظلوا ينظرون لخالقي الثروة كمجرمين ماليين سرقوا عرق الكادحين الذي يوفر «فائض القيمة» المضاف للثمن الأصلي للسلعة، حسب النظرية الماركسية التي يرتكز عليها ساسة العمال.

لذا يحاول الساسة ذوو الأصول الماركسية توجيه السوق، رغم تناقض ذلك مع مفهوم ليبرالية السوق التي اختارها الناخب أصلا. يحاولون تعديل ميزان ما يرونه توزيعا غير عادل للثروة، والتي يرجعون قدرة أقلية على خلقها، إلى ضربة حظ جعلتهم أكثر ثراء بمجهود اقل مما يبذله الفقراء. أو أن يلوم المعلقون الاشتراكيون حكوماتهم بحجة توفير فرص لأجانب أثرياء حرّمتها على أبناء الوطن في شكل تسهيلات استثمار وإعفاءات ضريبية، متناسين أن فرص العمل التي يوفرونها ومساهمتهم في اقتصاد البلاد تفوق أضعاف قيمة الضرائب المعفاة. خلل في منطق ساسة يمسكون بأدوات الماركسية الاشتراكية لإصلاح خطأ ـ لا وجود له أصلا ـ في السوق الحر كبيئة اقتصادية ديموقراطية قبلها الناخب في برنامجهم السياسي.

اخطر منابع الخلل في منطق الساسة اليوم اعتبارهم الرأسمالية «آيديولوجية» كمقابل جدلي للاشتراكية أو الشيوعية.

الرأسمالية ليست آيديولوجية بل مجرد تعبير يعكس طبيعة نشاط إنساني يتحرك بحرية في سوق مفتوح، وبضائع ورأسمال واستثمارات تتنقل بحرية لا تعوقها حدود دولية أو قيود آيديولوجية أو عقائدية.

الرأسمالية تعبير ليبرالي اقتصادي عن الديموقراطية التعددية ومجموعة حريات كحرية التعبير والعقيدة واهم حرية على الإطلاق: حرية الفرد في الاختيار. اختيار السلعة الاستهلاكية والملبس والمأكل ونمط الحياة

والعقيدة، أو غيابها.

حرية السوق، ببساطة، هي الترجمة الاقتصادية، التي يمكن قياسها بمعيار القيمة ـ وهو النقد أو المال ـ لحالة الإنسان، أرقى مخلوقات الكون وقد استغرق الطبيعة أكثر من مليون عام لصقل قدراته ومواهبه.

السوق الليبرالي هو مرآة الإنسانية. النجاح انعكاس لموهبة الإنسان في الإبداع، ولديناميكيته ولقدرته على اجتياز الصعاب، وأيضا انعكاس للضعف البشري كالجشع وقسوة التنافس والأنانية.

وبينما انقرضت أجناس عملاقة أضخم وأقوى منه، تمكن الإنسان من التطور والتأقلم وإصلاح الأخطاء، ليظل سيد المخلوقات.

درس يجب أن يتعلمه الساسة الشموليون من الطبيعة، ويتركوا السوق، كمرآة للإنسانية، يتحرك بحرية الكائن الحي بدون محاولة تقييده.