خسارة كبيرة

TT

المشرق العربي كان مثالا تطبيقيا للتعايش بين أبناء الديانات المختلفة، فلم يكن غريبا رؤية الفصول الدراسية وهي تشهد هذه الأمثلة، وكذلك الشراكات الاقتصادية وكذلك المشاريع الفنية والثقافية. حتى حدث الإخراج الأول لليهود من الدول العربية، والذي جاء مع الإعلان عن الدولة الصهيونية، فحدثت ردة فعل حمقاء من قبل الأجهزة الأمنية لبعض الحكومات العربية، التي تعاملت مع الجاليات اليهودية بريبة وشك وتضييق وقلق، لتجبرهم على الخروج (وهذا مع عدم إغفال الممارسات الخبيثة، التي كانت تقوم بها الوكالات الإغاثية الصهيونية لإثارة الذعر وسطهم وإرغامهم على الهجرة القسرية لإسرائيل)، وقد كان لذلك الأمر الأثر السلبي الكبير على الثراء الاجتماعي والتنوع الاقتصادي للعالم العربي، وإسقاط عملي لمقولة التسامح والعيش المشترك وقبول الآخر. واليوم هناك حراك مقنن وواضح لـ«الخروج الثاني»، والمقصود هنا هو تفريغ العالم العربي من مواطنيه المسيحيين، فنسب الهجرة للمسيحيين في لبنان والأردن والعراق ومصر وفلسطين والسودان وسورية، بلغت معدلات مذهلة. فلسطين تحديدا تواجه «مخططا» لتفريغ كل أراضيها من الوجود المسيحي الوطني الأصيل فيها.

وتتركز الهجرة المسيحية الفلسطينية بشكل أساسي في شيلي بأمريكا الجنوبية، وتحديدا في عاصمتها سانتياغو، إذ يبلغ التعداد الفلسطيني المسيحي هناك، ما يفوق الـ70 ألف نسمة (ويضم الفريق الوطني التشيلي لكرة القدم، أكثر من لاعب من أصول فلسطينية). وهناك التهجير المسيحي من مناطق عربية أخرى إلى أوروبا واستراليا وأمريكا وكندا. في ظل تنامي التطرف وفقدان القدرة على معرفة الأصول الحقيقية للتعايش مع الآخر، التي كانت مطبقة فعليا في سيرة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، لن يكون غريبا رؤية النماذج المتطرفة، وهي تسيطر على الخطاب الديني، وهذا ما يحدث الآن وبات أهم وسائل «الطرد» للمسيحيين من أوطانهم العربية. هذا الإخراج القسري الحاصل هو دليل دامغ على ضيق مساحة التسامح وقبول الآخر، لأن العبرة هي أولا وأخيرا بالنتائج. والمسيحي العربي طالما لا يشعر بالاستقرار والاطمئنان، فهناك مشكلة بالغة الخطورة، تتطلب الحراك الفوري للتصدي لها، لأن الثمن والتكلفة سيستمران في الارتفاع ليطالا الكل بلا تمييز بما فيهم المسلمون أنفسهم. ولكن تبقى حالة الصمت حيال هذا «الخروج» المستمر وتجاهل الأرقام المغادرة، وكأن الأمر لا يعني أحدا، يبقى كل ذلك غير مفهوم. العالم العربي كان دوما منطقة تلاقي حضارات، وتعايش ديانات، وامتزاج ثقافات، وكان ذلك نتاجه ثراء على أكثر من صعيد بشكل لا يمكن إنكاره ولا إغفاله، والآن مع ظهور هذه العلامات المقلقة لم يعد من الممكن الاستمرار في هذه الحالة. لم تعد الأرقام المهاجرة تحسب بالعشرات ولا بالمئات من الأفراد، ولكن بالآلاف، ولم يعد الأمر يتم بشكل سري، ولكن بشكل جماعي وعلني وبتوضيح صريح للأسباب، التي تتضمن الخوف والقلق، وغيرها من الإخفاقات في المنظومة الاجتماعية. هذا الخروج الثاني الكبير، هو سقطة كبيرة، ويجب ألا تمر بسلام، لأن المنطقة هي الخاسر الأكبر.

[email protected]