في البحث عن موجة ..

TT

حين نريد البحث عن إذاعة معينة في الراديو، أو محطة تلفزيونية، أو حتى اتصال لاسلكي، فإننا يجب أن نحدد الذبذبة أو التردد أو الموجة التي تبث عليها هذه المحطة أو تلك، وبدون ذلك لا يمكن أن يكون هناك أي اتصال. فالموجة هي الموصل الذي يستند إليه المرسل والمتلقي ليتم الاتصال، وبدون ذلك فإن الكل يسبح في العماء. هذا لا يعني أن يتفق المرسل والمتلقي على طبيعة الرسالة وفحواها، فقد يختلفان اختلافاً بيناً، ولكن يجب أن يكون هناك تردد معين، أو موجة محددة من خلالها يستقبل المتلقي الرسالة المراد إرسالها، وبغير ذلك تُصبح الرسالة مجرد رموز لا معنى لها ولا تفسير. بنفس التحليل يمكن القول ان هذا هو الحال في العلاقة بين بني البشر، أفراداً وجماعات، في تواصلهم مع بعضهم البعض، وهو ما يشكل الأرضية الصلبة التي يستند إليها الحوار المثمر. فعندما نقول ان «هنالك لغة مشتركة»، أو انه ليس هناك لغة مشتركة، فإننا في الحقيقة نتحدث عن الذبذبة أو الموجة بين المرسل والمتلقي. فحين يتوافق المرسل والمتلقي على ذبذبة أو موجة معينة، أو لغة مشتركة، فإن التواصل والتفاهم يكون مؤكداً. ولكن حين تختلف الموجات، ولا تكون هناك لغة مشتركة، حتى وإن كانت لغة المفردات واحدة، فإن الاتصال والتواصل والتفاهم المشترك يكون مستحيلاً، فأنت لا تستطيع أن تشاهد قناة معينة مثلاً باستخدام موجة قناة أخرى، ولن تتواصل مع رسالة خطاب معين مثلاً باستخدام مصطلحات خطاب آخر، وعلى ذلك يمكن المضي في التحليل.

عالم العرب اليوم، بل لنقل المجتمعات العربية اليوم، تفتقد إلى التواصل بين أفرادها وجماعاتها، وتحتاج إلى موجة معينة لتشكيل أرضية مشتركة لفك رموز الرسائل المتبادلة بين مختلف الأطراف، فمشكلتها الرئيسة أنها غير قادرة على التوافق على موجة معينة، ومن هنا تنبع كل مشاكلها، أو لنقل جزءا كبيرا من مشاكلها. فالتوتر في لبنان أو العراق مثلاً مصدره فقدان تلك الموجة المشتركة، فالكل يتحدث عن الوفاق الوطني، ومصلحة الوطن الواحد، ولكن فقدان الموجة المشتركة هو ما يجعل اللغة غير مشتركة، وتختلف المعاني بالتالي، رغم توافق الألفاظ. فالوفاق الوطني لدى هذا الطرف ليس هو ذات الوفاق الوطني لدى ذاك الطرف، و«الوطن» في الذهن الديني ليس هو ذات الوطن في الذهن المدني، وذات الشيء يمكن أن يُقال عن بلاد أخرى من عالم العرب، حيث تشترك الخطابات في المفردات ولكنها تختلف في المقاصد، وكل ذلك في ظل غياب موجة تجعل من الممكن أن تتفهم الأطراف المختلفة المعاني المراد إيصالها، فيضيع المعنى، وتضيع اللغة المشتركة، وتضيع الأهداف التي يتفق عليها الجميع شكلاً، وهم في الحقيقة مختلفون. فالحوار الذي يمكن أن يتم بين «الليبراليين» أو«الإسلامويين» مثلاً، هو حوار لن ينتهي إلى شيء، طالما كانت موجة الإرسال والاستقبال مفقودة، بل قد يكون إلى حوار الطرشان أقرب، قبل أن يكون حوار أخذ وعطاء، رغم اللغة المشتركة لفظاً، والمختلفة معنىً. فحين يتحدث الليبرالي عن الحرية، فإن هذا المفهوم في ذهنه ينصرف إلى معنى يختلف عن المعنى الذي هو في ذهن الإسلاموي، وبالتالي فإن الألفاظ واحدة، ولكن المعنى مختلف، واللغة غير مشتركة رغم أنها مشتركة. غياب الموجة بين المرسل والمتلقي يُلغي أي قاعدة يمكن الوقوف عليها بين الطرفين، وهنا تكمن المشكلة.

هذا لا يعني نفي التنوع، والقضاء على التعددية الفكرية والسياسية والاجتماعية، بقدر ما أنه يعني أرضية مشتركة يستند إليها الجميع في حوارهم واختلافاتهم. فلو أخذنا لبنان مثلاً، وقلنا ان الجميع يتحدثون عن «الوفاق الوطني»، ولكن مفهوم الوفاق الوطني لدى هذا الطرف مختلف عن مفهومه لدى الطرف الآخر، فإن ذلك مقبول بل ومطلوب، فهذا جزء من التعددية المبتغاة، والمشكلة لا تكمن هنا. كما أن المشكلة بين الليبراليين والإسلامويين مثلاً، لا تكمن في اختلاف المفاهيم حول الحرية والفردية وقيمة الإنسان، فالاختلاف مطلوب، والتعددية هي أصل الحياة وصيرورتها، والمشكلة لا تكمن هنا أيضاً. المشكلة تكون حين يريد هذا الطرف أو ذاك أن يفرض مفهومه على الجميع، وحين يشكل مفهومه الحق كل الحق، وما عداه باطل وبهتان ويجب نفيه جملة وتفصيلاً. فحين يسعى هذا الطرف اللبناني، أو العراقي، إلى فرض مفهومه «للوفاق الوطني» على أنه هو المفهوم الأوحد، ومن خالفه فهو مارق وخائن، أو غير ذلك من عبارات نافية لحق الوجود، هنا تكمن المشكلة، وهنا تنتفي الموجة المتحدث عنها. الموجة المقصودة هنا، أو الأرضية المشتركة أو اللغة المشتركة، هي القول مثلاً بأن «الوطن حق للجميع»، أو القول مثلاً بأن «الوطنية» من صفات كل مواطن بدءاً، وليست حكراً على طرف دون آخر، وما الجميع، على اختلاف توجهاتهم ومذاهبهم وتياراتهم، إلا مجتهدون في تحقيق ما يرونه صالحاً للوطن، ولكن لا حق لأحد أن يحتكر الوطن والوطنية، أو يختطفهما حين تسنح الفرصة. هذه هي الموجة المشتركة المتحدث عنها، أو الوفاق الأولي الذي لا يقوم بدونه وفاق لاحق، والتي يفتقد إليها عالم العرب ومجتمعاته اليوم.

وفي اعتقادي أن جل تاريخنا هو تاريخ «افتقاد الموجة». فالفرق الإسلامية كلها، من سنة وشيعة وخوارج ومعتزلة ومرجئة وأشاعرة وغيرها، إنما كانت تتجادل وتتصارع، ولا أقول تتحاور، دون موجة مشتركة. فكل فريق من هذه الفرق كان يرى أن الحق معه، وهذا شيء طبيعي، ولكن كل فريق من هذه الفرق كان يرى أن حقيقته هي «الحقيقة»، وبالتالي لا بد من فرضها على الجميع، فمن لا يؤمن بحقيقتي فهو لا بد من الضالين، وهنا تكمن المشكلة. كان كل فريق من هذه الفرق يطرح نفسه على أنه الممثل الأوحد والحقيقي للإسلام، وما عدا ذلك باطل وعلى ضلال مبين ويجب قمعه بشتى الوسائل، وأهمها السلطة السياسية، وبذلك تنتفي الموجة التي من الممكن على أساسها أن يتقابل الجميع عند نقطة معينة. واستمر ذات الحال في تاريخنا المعاصر، فالقوموي لا يرى أن الإسلاموي على شيء، واليساري لا يرى أن اليميني على شيء، والعكس صحيح، وهكذا تدور العجلة طالما كانت موجة التواصل مفقودة. مشكلة هذا الجزء من العالم، وأعني به عالم العرب، فسيفسائيته، فهو يبدو للناظر من الخارج متجانساً لا تشوبه شائبة، فنقول العالم العربي وكأننا نتحدث عن كل متجانس، فيما هو في حقيقته مجرد مربعات متلاصقة ولكن لا رابط بينها ولا اتصال، وهذه هي الفسيفسائية التي تشكل عالم العرب، بل ومعظم الدول الوطنية المكونة له، وما لبنان أو العراق أو السودان إلا صورة عارية لكل المجتمعات العربية، وإلا فإن الفرق في درجة الفسيفسائية وليس في وجودها.

حين كتب كمال الصليبي «بيت بمنازل كثيرة: الكيان اللبناني بين التصور والواقع»، لم يكن حقيقة يكتب عن لبنان فقط، حين النظر إلى الرسالة التي يريد إيصالها، بقدر ما كان يكتب عن عالم العرب جملة، أو هذا هو ما خرجت به من قراءة الكتاب على الأقل. ربما كان لبنان أو العراق حالة واضحة لما يعانيه عالم العرب، ولكنه ليس حالة شاذة، فكل عالم العرب هو لبنان والعراق، وهو بيت بمنازل كثيرة، ولكن القراح تظهر في الصورة هنا وتختفي هناك، والكل في الهم عرب.