العراق: مشاكل كبيرة .. وحلول صغيرة

TT

حكومة رومانو برودي التي سقطت في ايطاليا مؤخرا هي الحكومة الحادية والستين في تاريخ هذا البلد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، اي بمعدل حكومة كل 13 شهرا، وعدم الاستقرار هذا ناتج أساسا عن غياب حزب قوي قادر على تشكيل حكومة بأغلبية مريحة وعن نظام انتخابي لم يعالج مكامن الخلل التي تنتج برلمانا مكونا من قوى مشتتة تنتج بدورها تحالفات حكومية هشة وسهلة الزوال مع كل طارئ.

ويبدو ان النظام السياسي العراقي اختار ان يكون نسخة من الإيطالي مع فارق ان ايطاليا قادرة على الاستمرار بحكومة ضعيفة وربما بدون حكومة لبعض الوقت، ولكن الحكومة هي الدليل الوحيد على ان العراق يمكن ان يستمر، كل شيء لدينا يبدأ من هذه النقطة، الأمن والأعمار والمصالحة، فالعراق بلد بحاجة الى ان يبنى من جديد وان يتم استثمار الكثير من الموارد والتخطيط لهذه المهمة، وهو هدف لا يمكن ان تحققه حكومة هشة وبرلمان مفكك وطبقة سياسية مشتتة. فالناظر للحراك السياسي الجاري الآن قد يشعر بقدر من التفاؤل، لكنني ازعم انه تفاؤل مبني على الأماني وليس الواقع.

التحالف الرباعي بين الحزبين الكرديين والحزبين الشيعيين جاء لإرسال رسالة للآخرين بأن هذه الأحزاب قادرة على الاستمرار بالحكم لوحده، والآخرون حاولوا ان يتكتلوا لإرسال رسالة معاكسة، الا انهم فوجئوا بتحالف جديد ينبثق بين الحزبيين الكرديين والحزب الاسلامي اراد به الأكراد ارسال رسالة الى المالكي بأنهم ساخطون عليه بسبب الخلافات حول عقود النفط التي ابرمتها حكومة كردستان وحصص الاقليم من الميزانية وطبعا ما استشف انه عدم حماس من جهة المالكي لتطبيق المادة 140 بخصوص كركوك، والحزب الاسلامي اراد ارسال رسالة الى الائتلاف الموحد بامكانية كسر ما اعتبر تحالفا كرديا ـ شيعيا مسيطرا، لا سيما مع تحركات للتقارب من المجلس الأعلى لإرسال رسالة أخرى الى المالكي بحسب دوافع كل طرف، الأحزاب السنية غير الراضية عن انفراد الحزب الاسلامي بالتحالف مع الكردستاني تقترب من المالكي لترسل رسالة بعدم الرضى، والمالكي يتحرك لجذب الاطراف الأكثر تشددا تجاه المطالب الكردية لإرسال رسالة للأكراد بأنه يمكن أن يستغني عنهم اذا اختاروا ان يكونوا في المعسكر المقابل.

جميع الاطراف حسبت المكاسب والخسائر المحتملة ووجدت ان تفكيك التحالفات القائمة قد ينتج خسائر اكبر من اي مكاسب محتملة، فإذا بالأطراف تقرر العودة رويدا الى «الحكم الجماعي» وهي تسمية تعني في قاموس الطبقة السياسية العراقية العودة الى ما كان عليه الحال في اليوم الاول عند تشكيل الحكومة الحالية. بالطبع ان ذلك افضل مما هو عليه الحال مع حكومة انسحبت العديد من اطرافها وتهدد اخرى بالانسحاب، ولكن لا ضمان ان السيناريو نفسه لن يتكرر طالما ظلت الطبقة السياسية بكل اطيافها تمارس عبثية سياسية مؤسسة على مصالح ضيقة تدور أصلا حول الحصص وحجم السلطة التي يمتلكها كل طرف وليس على البرامج والسياسات وإلا كيف يمكن لخصوم الأمس ان يتحالفوا فجأة كما ان أصدقاء الأمس يصبحوا فجأة خصوما.

منذ ثمانية اشهر وعد رئيس الوزراء بتشكيل حكومة تكنوقراط وهو مفهوم صار محببا للعراقيين بعد ان يئسوا من حكومة الأحزاب، الا انه كان وعدا غير قابل للتحقيق لأنه ينطوي على تغيير جذري لا يمكن لرئيس وزراء يستمد وجوده من تضامن هش بين احزاب لا يجمعها الا اتفاق على محاصصة المواقع ان يقوم به مهما كانت سلامة نواياه، فأول ضحية لحكومة التكنوقراط ستكون رئيس الوزراء نفسه لأنها ستفهم كخطوة لحل العقد السياسي الراهن وبالتالي انهيار نتائجه. ادرك رئيس الوزراء صعوبة ذلك فاخذ يخفض من سقف التوقعات بالإعلان عن نيته ترشيق الحكومة وإلغاء بعض الوزارات التي لا عمل لها سوى ان تكون صوتا لهذه الكتلة او تلك في مجلس الوزراء، ولكن هذه الخطوة ايضا لن تجد النور في الغالب، إذ ان الغاء وزارة ما سيعني الغاء حصة، وبالتالي خلخلة العقد مجددا لأن أحدا ما سيتضرر لنقص حصته، وآخر سيستفيد لأن هذا النقص سيقوي من قيمة حصته، ومراجعة بسيطة للتقاليد السياسية الراهنة يمكن ان تكون كفيلة بتوضيح مدى امكانية حصول ذلك.

لقد انتقلنا من نظام مفرط في مركزيته وفرديته الى آخر مفرط في تفككه وتعدد مراكز القوى داخله، وأي من النظامين لا يمكن ان ينتج دولة ديمقراطية ـ عصرية، والحكومة التي لا يمكن لرئيسها ان يقيل او يختار اعضاءها لا يمكن ان تكون بالمقابل عرضة للمساءلة من برلمان تشارك جميع كتله في الحكم وفي المعارضة، فحتى الاحزاب التي نعتبرها تقليديا حاكمة تنتقد «الحكومة» أحيانا، مستغلة التشويش الذي ينطوي عليه نظام سياسي لا تشكل الوزارة فيه سوى حلقة واحدة من عدة حلقات تتحمل جميعا الخطأ والفشل قبل ان تتسابق على ادعاء النجاح.

بالطبع فان الأحزاب الموجودة وان كانت مختلفة على اشياء كثيرة فإنها ستميل الى الاتفاق على عدم الحاجة الى انتخابات مبكرة لتصحيح الوضع اخذين بالاعتبار أن الراعي الأمريكي سيتردد أيضا أمام هذا الخيار لأنه ومع نقده للطبقة السياسية لا يريد ان يتخلى عنها نحو بدائل غامضة وقد تكون اكثر فشلا. مع ذلك فان الانتخابات ان كانت استحقاقا يستعصي الإسراع به فلا ينبغي تأجيله، كما لا ينبغي إقامته في ظل نفس النظام الانتخابي الراهن لأنه في الغالب سيعيد انتاج ذات المعادلة الصعبة، كما يعيد انتاج الاصطفاف الطائفي، وبدلا من تضييع الوقت بمزيد من اعلان تحالفات اليوم الواحد أو استحداث مزيد من المجالس والإدارات التي تحمل معها مزيدا من المشاكل والمعضلات، لا بد من الشروع بالتفكير مع الخبراء الدوليين بأفضل النظم الانتخابية البديلة، مع تجربة التفكير مرة واحدة خارج اطار المصالح الحزبية والشخصية الضيقة لأن افضل ما يمكن ان يفعله البرلمان الحالي هو ان يمهد لرحيل «جيد».

الشيء الآخر لا بد من إعادة تشكيل للمفاهيم حول الدولة والسلطة والحكومة، بأن لا تعني المشاركة في النظام السياسي أن يصبح الجميع أعضاء في الحكومة، فهي وصفة مجربة لحكومة ضعيفة مفككة عاجزة عن العمل، لا بد من التأسيس لمفهوم المعارضة داخل النظام والتي يمكنها وحدها ان تنتقد الأداء لحكومي، متعكزة على برنامج بديل. أما أعضاء الحكومة، فان وجود البديل سيدفعهم الى ان يتراصوا ويمارسوا الاداء الحكومي بجدية من يدرك ان لفشله ثمنا لا تسدده ترضيات مؤقتة او حلول ترقيعية او مصالحات شخصية.