السجون ولا المراحيض

TT

للمراحيض تاريخ فكاهي ممتع تفتق عنه الكثير من النكات والمقالب. سبق أن رويت شيئا منها. وتساورني الرغبة لتأليف كتاب «موجز التاريخ العربي للمراحيض الوطنية». وأعتقد انه سيحظى من الاهتمام بما يفوق كل ما كتبته عن القضايا السياسية. من اول ما سأقوله في ذلك الكتاب هو نقد الحكومات العربية على انهماكها في بناء السجون بدلا من المراحيض العامة.

كان مما سمعته في هذا الشأن هو ان الانسحاب الاسرائيلي من سيناء عام 1956 تأخر لساعتين بسبب انحباس السفير الأمريكي في مراحيض القصر الجمهوري في القاهرة. كان قد جاء على عجل للالتقاء بعبد الناصر. ولكن موظف التشريفات أساء فهمه. فتصور انه مزنوق ويريد المراحيض. اقتاده اليها. وقفل الباب خوفا من تطفل اي طارق. لم يخيب السفير ظنه ولكنه عندما حاول الخروج وجد الأبواب مقفلة. عبثا حاول ان يطرق عليها. لم يسمعه التشريفاتي وتصور انه كان مبتليا بإسهال. وظل ينتظره ناسيا انه أقفل الباب عليه. وبقي السفير سجينا في المرحاض لساعتين وعبد الناصر ينتظره. ولكن ما قيمة ساعتين بالنسبة لنا؟

سمعت عن حادثة مشابهة وقع فيها دبلوماسي هندي في الجزائر. كنت قد تعرفت عليه هناك والتقيته في ما بعد بلندن. سألته عن صحته وعن الجزائر. تجهم وجهه وقال: أرجوك لا تذكرني بها. حكى لي عن المقلب الذي وقع فيه هناك. ذهب لمقابلة وزير الخارجية. أجلسوه في غرفة الانتظار. وطال به الانتظار. شعر أخيرا بالحاجة لقضاء الحاجة. فخرج الى المرافق الصحية للوزارة. عاد اليه التشريفاتي ليقتاده لغرفة الوزير فلم يجده. تصور انه قد مل الانتظار وخرج غاضبا الى بيته. اخبر الوزير بذلك فلبس معطفه وانصرف للبيت. حذا حذوه سائر الموظفين وحمل التشريفاتي المفاتيح وقفل كل الأبواب وانصرف. طال الانتظار بالدبلوماسي الهندي فحاول الخروج ليستفسر. وجد الأبواب مقفلة. راح يضرب عليها بدون جدوى. اخيرا فتح الشباك ليستغيث. راح يصرخ بأعلى صوته. انتبه الحرس فتصوروه جاسوسا أو إرهابيا. أسرعوا لبنادقهم الرشاشة. ولولا حكمة الباري لأردوه قتيلا. اقتادوه مكبلا بالكلبشة للتحقيقات للبت بشأنه. «أرجوك مستر قشطيني، لا تذكرني بالجزائر بعد اليوم».

بيد أن المستر قشطيني، أوقع نفسه في مطب محرج آخر. كنت ذاهبا لمبنى «البي بي سي» لمقابلة صحافية. شعرت بنوبة من الإسهال مما يحدث لي كلما سألني احد عن الشؤون العربية. هرعت لأقرب مرافق صحية. وفي ذهولي دخلت مراحيض النساء. أقفلت باب مرحاضي ولم افطن لخطئي الا بعد مجيء فتاتين انهمكتا بالتضاحك والتراشق وذكر كل ما لا يجوز لرجل سماعه. لم يعد باستطاعتي الخروج من مكاني الآن. انتظرت خروجهما. ولكن ما حصل كان العكس. انضمت اليهما أخريات. وتحولت المراحيض الى ندوة نسائية. ازداد موقفي حراجة بمرور المزيد من الوقت. لن يصدقن براءتي وسيتصلن بالإدارة لاعتقالي بتهمة التلصص والتجسس اللاأخلاقي على النساء. صبرت حبيسا في ذلك المرحاض حتى من الله علي بخروجهن.

وأثناء ذلك، كان موعد البرنامج قد مضى ونفض المخرج يديه مني متمتما: «مثل ذيل الكلب! يبقى العربي خمسين سنة في هذا البلد ولا يتعلم احترام الوقت».