في شأن الذي جرى في غزة؟

TT

كان ما جرى في غزة، ومن غزة، آخر ما تفكر فيه القاهرة قبل أيام من زحف ثلاثة أرباع المليون من الفلسطينيين في اتجاه سيناء وقيامهم عمليا بالاحتلال السياسي والاقتصادي والمعنوي للفضاء المصري على مدى أكثر من أسبوع. كانت مصر قد انتهت فيه توا من عام غلب عليه التوجه والتركيز على الداخل المصري بينما بدا الخارج وقد استقر على معادلات حرجة ولكنها لا تستعصي على المعالجة من ساسة محنكين خبروا المنطقة وما فيها من معضلات مستعصية. ورغم قدر من الرضا نتج عن الأداء الاقتصادي المتميز، فقد كان الحوار المصري الأخير حول الدعم وحالة الفقراء منذرا بالطريق الطويل الذي تحتاجه المحروسة لكي يكون مستقبل المصريين آمنا؛ ورغم قدر من الرضا على أن مبادرة «أنابوليس» التي جاء جورج بوش لدعمها مع أول العام حول القضية الفلسطينية سوف تشكل الإطار العام لتسوية ممكنة، إلا أن القيادة المصرية كانت تعلم تماما أن الشرق الأوسط يعرف عن السراب أكثر مما يعرف عن الواحات الحقيقية. وربما كان لدى المصريين بعض من البشرى عندما فاز فريقهم الوطني لكرة القدم على فريق الكاميرون في أول جولات كأس الأمم الأفريقية وبات على باقى الفرق، والنقاد، أن تأخذهم بجدية في ترشيحات الفوز والوصول إلى المربع الذهبي أو حتى منصة التتويج النهائية.

ورغم أن المصريين في تاريخهم الطويل قد عرفوا كثيرا من الأمجاد وما هو أكثر من خيبات الأمل، كما عرفوا كثيرا من طرق الشرق الأوسط الوعرة حتى ظنوا أنه لم يعد هناك مكان للمفاجآت؛ فإن غزة فاجأتهم تماما هذه المرة حينما خرج منها قبل أن تشرق شمس صباح الثالث والعشرين من يناير ثلاثة أرباع مليون نسمة أو نصف سكان قطاع غزة إلى رفح ومنها إلى بقية مدن سيناء المصرية. وفي الحقيقة فإنه كان واجبا على القاهرة ألا تفاجأ على الإطلاق لأن تنظيم حماس كان قد تملك غزة منذ شهر يونيو الماضي ولم تكن معاملته كريمة أبدا للبعثة المصرية الأمنية في القطاع؛ ومنذ سنوات كانت حماس ومعها تنظيمات فلسطينية أخرى قد بدأت في تثقيب الحدود المصرية من خلال أنفاق تنقل السلاح على الحدود المصرية الفلسطينية. وفي واقعة من الوقائع تم نقل عناصر إرهابية مصرية إلى غزة عبر الأنفاق حيث تم تدريبها عن طريق جماعة جيش الإسلام التابعة لتنظيم القاعدة وعادت إلى مصر لكي تقوم بعملية دهب الإرهابية.

ولم تكن حماس أبدا في نفس الصف الذي وقفت فيه مصر سواء عندما طردت بعنف السلطة الوطنية الفلسطينية، أو عندما انعقد مؤتمر «أنابوليس» أو عندما جاء جورج بوش إلى الشرق الأوسط، وبالتأكيد قبل كل ذلك عندما عقدت مصر سلاما مع إسرائيل وحافظت عليه.

ولكن كل ذلك لم يمنع مصر أبدا من إدراك أن حماس وقطاع غزة هي التي تجاورها في إطار جغرافي سياسي يصعب تجاهله؛ كما أن سياسة مصر الفلسطينية كان لها دوما بعدا داخليا ارتبط بتصورات متوطنة لقطاعات من النخبة المصرية بأنه بدون دور مصري في «القضية المركزية» فإن مصر تفقد تماما دورها «الإقليمي». ولذلك بقيت مصر على علاقات مع قطاع غزة وسلطة حماس لم تكن حميمية كثيرا، ولكنها بالتأكيد لم تكن معادية، وكان كافيا للاعتقاد أنه سوف يكون ممكنا دوما تسوية الأمور مع غزة بشكل متحضر.

ومع ذلك حدثت المفاجأة، وللوهلة الأولى بدأ التدفق الفلسطيني على مصر نتيجة تلقائية لوجود كارثة إنسانية جارية بالفعل في القطاع كانت علاماتها واضحة منذ فترة. وبالتأكيد فقد كان هناك قدر كبير من التعاطف الرسمي والشعبي مع الحالة الصحية للمواطنين الفلسطينيين الذين كان معلوما للمستشفيات المصرية الكثير من أحوالهم. ولم يقصر لا الإعلام العربى، ولا إعلام الإخوان المسلمين المصريين من خلال نقابة الأطباء واتحاد الأطباء العرب خلال الأيام السابقة على الاجتياح في شرح الحالة المحزنة التي وصل إليها القطاع. وهكذا كان الاستقبال المصري الأول للمسألة وحجمها الهائل هو التعامل معها باعتبارها قضية إنسانية وقومية في المقام الأول وتم فتح الحدود على مصراعيها، وبدأت الحاملات في نقل السلع فورا إلى المدن المصرية التي ارتادها الفلسطينيون ـ رفح والعريش والشيخ زويد ـ أو حتى نقلها مباشرة إلى غزة. وقد حدث ذلك بينما انطلقت سلسلة من مظاهرات التأييد في المحافظات المصرية المختلفة، برز فيها الإخوان ولكنهم لم يكونوا وحدهم في الساحة.

كان ذلك هو المشهد الأول في الأزمة واستمر على مدى 24 ساعة، من بعده بدأت مظاهر كثيرة مقلقة للسلطات المصرية وحتى للشعب المصرى نفسه. فما كان واضحا أنه نوع من الاجتياح التلقائي غير المخطط استجابة لظروف إنسانية صعبة سرعان ما ظهر أنه كانت هناك جهود منظمة حول الحدث استغلت تلك الظروف وحركتها. فقد كان اقتحام المعابر والحدود جاريا بعدد من المعدات الثقيلة مثل «البولدوزرات» التي من الصعب على العاديين من الناس الاحتفاظ بها في بيوتهم، كما واكبها عمليات نسف استخدمت فيها مفرقعات للقواعد الخرسانية للحدود. ومرة أخرى لم يكن ذلك ما يفترض وجوده في غرف النوم الشعبية بحيث يقومون باستخدامه لزيارة بلد مجاور. ومع الوقت واتساع الفجوات في الحدود المصرية ـ الفلسطينية ظهر الملثمون من رجال حماس على الجانب الآخر وهم يطلقون الرصاص الذي حدث أنه ـ عن قصد أو غير قصد ـ قد أصاب 36 جنديا مصريا أصبح أربعة منهم في حالة حرجة. ووفقا لبعض التقارير فإن بعضا من الفلسطينيين لم يكن يحمل ورودا وإنما حمل أسلحة ومفرقعات؛ أما البعض الآخر فلم يكن قاصدا شراء السلع التموينية من اجل شعب من الجوعى أضناه الحصار، وإنما كان قاصدا الذهاب إلى دول أخرى ويطلب من السلطات المصرية تسهيل مهمته.

وبدا ذلك أمرا غريبا لأن نقطة حماس الجوهرية بالنسبة لعملية السلام كانت مدى استجابتها لتحقيق «حق العودة» للفلسطينيين، أما تسهيل «حق الخروج» من فلسطين فقد كان نقطة مفارقة لمقتضى الحال. وكان ما أدهش المصريين كثيرا أن من جاءوا من قطاع غزة كانوا يحملون أموالا سائلة بكميات كبيرة وقادرة على شراء السلع بأربعة أضعاف ثمنها بالإضافة إلى أن مظهرهم من ملبس وصحة كان أفضل كثيرا من أحوال المصريين عامة والفقراء منهم خاصة. وكان غريبا ومدهشا في هذا الوضع الانساني أن سلطات حماس بدأت تتعامل مع الموضوع وكأنه انتصار قد جرى على قوى معادية، وظهر أن هناك قوى ذات مصلحة أقامت نظاما ماليا كاملا لتحويل العملات بين الجنيه المصري والدولار الأمريكي والشيكل الإسرائيلى، ومع هذا وذاك بدا مجلس الوزراء الفلسطينى في غزة لا هم له إلا استقبال قوى المعارضة المصرية ومنحها دروعا للتقدير ومباركة للنضال المشترك.

إزاء هذه الشكوك والهواجس جميعها كان لا بد للقاهرة أن تعيد تقييم الموقف، وفي الحقيقة أن الخيارات كانت أمامها محدودة، فالصحبة الفلسطينية الجديدة كانت هائلة بحيث يستحيل معها الحلول الأمنية، كما أن الطريقة التى تمت بها يصعب وضعها ضمن الانتفاضات العفوية ويضعها بالتأكيد وسط المناورات السياسية الكبرى التي لا يمكن التعامل معها لحظيا. كما أن التأييد الداخلي المصري للشعب الفلسطيني كان لا يزال قويا حتى ولو حاول الإخوان المسلمين تحويل التعاطف إلى انتصار خاص يكتب لهم في سجل النضال القومي.

ولذلك كان الحليف الأول للسلطات المصرية هو الزمن والإيمان المصري الذي لا يتزعزع بالدولة ورفض العبث بها ونظامها. ومع انتشار الحقائق والخبرة المباشرة بما حدث، بدأ الموقف المصري الشعبي في التغير إلى الدرجة التي بدأ فيها كوادر الإخوان أنفسهم يقولون باستنكارهم أي عبث بالحدود المصرية أو استخدام القوة ضد القوات المصرية. وكان ذلك ضروريا لقيام إستراتيجية تقوم على ضبط الحدود بحيث تكون قادرة على أمداد قطاع غزة بما يلزم من احتياجات أساسية، ولكن دون أن تتحول الحدود إلى قطعة من الجبن السويسري التي تخترقه قوافل حماس وغيرها من الأنفاق والأسوار. وبعد ذلك كانت المهمة السياسية أمام القيادة المصرية هي الحصول على تأييد المؤسسات المصرية المختلفة من برلمان وأحزاب ومثقفين وهو ما حدث تدريجيا. وكان جزءا من هذه العملية أن تقوم مصر بواجبها نحو توحيد الصف الفلسطيني ومن هنا كانت الدعوة لحماس والسلطة الوطنية إلى القاهرة، ولكن لو تعثر ذلك، وكان ذلك ما حدث فهو البحث عن ترتيبات على الحدود الفلسطينية ـ المصرية.

ولكن القاهرة كانت تعلم أيضا ما هو أكثر، فما لم يكن لديها القدرة الأمنية على إقامة حواجز تدافع عن الحدود المصرية، فإن حماس لن تتوانى عن استخدام الجموع كدروع بشرية لتحقيق سياستها، ونقل أو تصدير أزماتها إلى مصر. وقبل أن ينتصف الأسبوع كانت القوات المصرية على الشريط الحدودي مع غزة قد أصبحت من القوة بحيث نجحت في إقناع الفلسطينيين بالعودة مرة أخرى إلى فلسطين قبل أن يمضي الوقت ويصبحون من جماعة المقاتلين من أجل حق العودة التي راح وقتها وفرصتها. وبعد أسبوع من بداية الأزمة كانت أمور كثيرة قد تغيرت في المنطقة، ربما تكتشف حماس بعدها أنها بما فعلت قد خلقت واقعا جديدا تتغير عندها العلاقات والترتيبات الموجودة. ولكن أليس ذلك هي وظيفة الأزمات الكبرى التي لا تصبح الحياة بعدها كما كانت قبلها؟!