القصيبي والمرأة وتفادي المعركة

TT

كانت لفتة منطقية وعقلانية من وزير العمل السعودي الدكتور غازي القصيبي حين أشار في اجتماعه الأخير مع أعضاء الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان بالرياض إلى حقيقة أن المجتمع السعودي له قواعده وضوابطه التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند اتخاذ أي إجراء أو قرار كتوظيف المرأة بشرط إذن ولي الأمر، هذا الشرط الذي تلح عليه الأغلبية في مجتمع محافظ ارتضى لنفسه قواعد وقيود، يقول الدكتور القصيبي إنه ليس على استعداد لخوض معارك اجتماعية وفقهية شرسة لكسرها أو حلحلتها.

هذه النظرة الواعية والعاقلة لأحوال المجتمع وقيوده وحدوده هي ذات النظرة التي جعلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحجم عن تسوية بناء الكعبة وتأسيسه مرة أخرى على قواعد إبراهيم (يَا عَائِشَةُ لوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثو عَهْدٍ بِجَاهِليَّةٍ لأَمَرْتُ بِالبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلزَقْتُهُ بِالأَرْضِ وَجَعَلتُ لهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ)، مع الفارق الشديد بين الحالتين طبعا، وهي التي جعلت الرسول يمتنع عن قتل كبير المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول حين أستأذنه عمر في قتله (دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه )، هذا ناهيك عن أن لكل مجتمع الحق في أن يسن من القوانين والأنظمة والقيود والحدود ما يرتضيه لنفسه رضي من رضي وسخط من سخط.

وفي تصوري أن هذه الفلسفة المنطقية لم يفهمها الكثير عن المجتمع السعودي، فقد يتفهم هؤلاء كيف تحظر دور البغاء وبيع الحشيشة في بلد مثل بريطانيا ويسمح بهما ويقنن لهما في دول أخرى كهولندا مثلا، ويبررون هذا الاختلاف ويعزونه إلى رضا هذه المجتمعات بالحظر أو بالسماح، وفي ذات الوقت يستاءون ويتبرمون ممن يمارس هذا الحق في المجتمعات التي يعيشون فيها.

أعود إلى زيارة الدكتور القصيبي لمقر الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان والتي احتفى بها أعضاؤها كونها أول زيارة لوزير سعودي يناقش فيها ملاحظاتهم الحقوقية المتعلقة بوزارته، فقد قال عنها الزميل عبد العزيز السويد في مقاله في صحيفة الحياة الجمعة الماضية بأنها زيارة تحسب له، ولكنها في تقديري ليست كل ما يحسب له، فإقراره بكل ما ورد في التقرير السنوي القوي للجمعية الوطنية لحقوق الإنسان من ملاحظات ونقد على أداء وزارته أمر آخر يستحق الإشادة، فمجتمعات العالم الثالث لا تعرف في الغالب من مسؤوليها إقرارا بأخطاء، وقاعدة «كله تمام وغيري هو الغلطان» هي السائدة في كثير من الدول العربية، ومن يقول غير ذلك فهو مغرض وسيئ النية والطوية.

التقريرالسنوي للجمعية الوطنية لحقوق الإنسان حوى ملاحظات جريئة ولكن بموضوعية ولغة هادئة على الممارسات والأخطاء والتجاوزات التي ارتكبتها عدد من الوزارات والإدارات الحكومية الأخرى في مجال حقوق الإنسان كالشرطة والمباحث وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسجون ودور التوقيف بل طال النقد والملاحظة إجراءات التقاضي وغيرها، هذا التقرير القوي الرصين أسكت المشككين الذين اعتبروا تأسيس الجمعية في السعودية طرفة ظريفة.

بقي أن أؤكد أن نجاح الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان وبالذات تقريرها السنوي الأخير جير في الداخل والخارج لصالح الحكومة السعودية التي رخصت لمؤسسة حقوقية لتكون قوالة فعالة، قبل أن يجير للجمعية أو القائمين عليها، فليس النجاح أن ترصد تجاوزات غيرك فهذا سهل، النجاح يكمن في أن تتقبل النقد والحديث العلني عن التجاوزات وتسمح بآلياته ومؤسساته.

[email protected]