«عمل يشبه التقوى»

TT

أبحث منذ فترة، بكل صدق، عن وسيلة أشارك بها في تكريم مصر للناقد رجاء النقاش، ولم أكن ألقى. فبعض الناس الذين يمضي العمر ونحن نعتقد أننا نعرفهم، نكتشف فجأة أننا لم نكن نعرف عنهم شيئا. ثم نكتشف أيضا أنهم أناس بلا تفاصيل. لا أحداث في حياتهم. لا تحولات. لا مناصب. لا مواقع. لا معارك. إنهم، نتاج لامع وظل متواضع. ويغرق في التواضع والانسحاب إلى الظل، إلى فيء النفس الهانئة.

كنت أبحث عن مدخل أو ذريعة، للمشاركة. ووجدت أنه ليس لدي ما أضيف. فالأسماء التي اختيرت لتكريم الكاتب الكبير، المعروف، لأسباب غامضة وغير مقنعة، «بالناقد»، تلك الأسماء يعرف أصحابها رجاء النقاش أكثر مما أعرفه بكثير. وأنا لا أعرف سوى قلمه، فيما هم رفاق إبداعه وشهود مناقبه ومسيرته الوادعة الطويلة في دنيا النقد والبحث ومسارات المعرفة.

كنت أبحث عن مدخل فلا أجد. وها هو أحمد عبد المعطي حجازي يمنح قراءه وزملاءه عناوين الطريق إلى الكتابة عن رجاء النقاش في مقاله الأسبوعي في «الأهرام» الذي جعل عنوانه مناجاة بسيطة مقتضبة: «يا رجاء». يختصر أحمد عبد المعطي حجازي عطاء رجاء النقاش بالقول إنه «يشبه التقوى». وفي تكريمه تكرم مصر جيلا طويلا من العاملين الراقين الذين لم يتعبهم الاجتهاد والتكرس. ولم يفصل النقاش في العلاقة بين آدابنا وآداب الغرب. وقد حدب عليها على أنها وليدة عبقريات واحدة تتواضع أمامها الأمم.

كان رجاء النقاش مكثرا ودقيقا معا. وكان ملتزما العبقريات الكلاسيكية الكبرى، لكنه انفتح على الحداثة وإعلامها بدون حدود، وأذكر أنني خضت معه مجادلة أدبية واحدة. وليس من الضروري الاستطراد من أجل القول بأنه هو الذي فاز. وقد استحققت نتيجة ما فعلت. فمن المغامرة، الخوض في جدل نقدي مع رجاء النقاش.

ولا أقلل من قيمة العمل النقدي عندما أقول إن أعمال النقاش فوق ذلك. فمجموع نتاجه وأعماله يجعل منه كاتب الكتَّاب. أو كاتب الكتب. وليس مجرد متعاط في شؤون الأدب بالخفة التي لازمت مراحل النقد العربي. لهذا اختار أحمد عبد المعطي حجازي صفة «التقوى» يلبسها أعمال النقاش ومنهجه في العمل وفي الحياة. وهذا جيل من الكبار نشأ على نهج جيل من المعلمين. أفاقوا على الشغف الأدبي فوجدوا أنفسهم في عالم العقاد وطه حسين وشوقي ضيف فاقتدوا.