لكل قرية أهلها

TT

من الأمور التي تلفت النظر في العالم العربي تميز بعض القرى والمدن الصغيرة بميدان معين من الاهتمام والاحتراف. مدينة تكريت مثلا توجهت للحياة العسكرية بما تمخض عن عدد غير قليل من قادة الجيش وأدى في الأخير الى ظهور صدام حسين. نفهم لماذا اشتهرت النجف بكل أولئك العلماء والأدباء. فهي مركز للعلوم الدينية. ولكن لماذا اخرجت هذه القرية الصغيرة على نهر الفرات، السماوة، كل هذا العدد من الشعراء والأدباء، محمد السماوي وكاظم السماوي وسواهما من الأعلام؟ هل تجري في عروق ابنائها جينات حب الأدب والعلم؟

مهما شئنا ان نقول، فمن الظاهر ان اهلها تميزوا بالحرص على التعلم والتقدم. هذا ما أستشفه من حكاية اول مدرسة اقيمت هناك. وهي حكاية اوردها كدرس في الاعتماد على النفس والمبادرة الشخصية، وهو ما يحتاجه عالمنا العربي اشد الحاجة.

عندما تأسست المملكة العراقية، لم يرث العراق من الحكم العثماني غير مدرستين ثانويتين في بغداد، واحدة للدراسة المدنية، إعدادي ملكي، واخرى للدراسة الحربية، إعدادي عسكري. لم تكن هناك اي مدارس ثانوية في المدن الاخرى. بادر الحكم الوطني الى اقامة مدارس ثانوية في المدن الكبيرة كالبصرة والموصل. اضطرت العوائل الموسرة في القرى والمدن البعيدة الى ارسال اولادها الى العاصمة لمواصلة الدراسة الثانوية. وبالطبع لم يكن ذلك سهلا او رخيصا. عانى اهل السماوة من هذه المشكلة. لم يكن بمقدور جميع سكانها الفقراء تحمل هذا العبء. ولكن الظاهر انهم كانوا قد تميزوا عن سواهم بحرصهم على التعلم. بذلوا جهودهم لإقناع وزارة المعارف بفتح مدرسة ثانوية في مدينتهم ولكن المسؤولين امتنعوا واعتذروا بضيق ذات اليد.

برز في المدينة الحاج عباس الحذاف الذي كان يملك علوة (مخزن مزاد المحاصيل الزراعية). جمع وجهاء البلد وألقى فيهم هذه الكلمة. قال: لماذا نستعطي من الوزارة وننتظر رحمتها لفتح مدرسة لنا؟ دعونا نقوم بذلك بأنفسنا. اقترح عندئذ فرض اتاوة بمقدار درهم واحد على بيع كل جزة صوف في علوته، وعشرين درهما على بيع كل تنكة دهن. تجمع هذه الاتاوات في حساب خاص باسم مشروع متوسطة السماوة. صفق القوم له وايدوا مشروعه. ما ان جمع المبلغ الكافي حتى بوشر ببناء مدرسة من صفين فقط. بقيت مشكلة المعلمين. تطوع طبيب المدينة لإعطاء دروس اللغة الانجليزية مجانا. تبعه امين صندوق البلدية بالتطوع لتدريس الحساب. وانبرى احد شعراء القرية لتدريس اللغة العربية والتاريخ مجانا. لم يبق من المال ما يكفي لشراء رحلات وكراسي. فاستغنوا عنها بجلوس الطلاب على الارض. ثم تبرعت مديرية معارف الديوانية بسبورتين. استمر فرض الاتاوات في علوة الحاج عباس، فما اجتاز الطلبة العام الأول حتى استطاعوا توسيع المدرسة بفتح صف جديد. وهكذا توالى البناء. وبعد ان سمعت بغداد بما قام به اهل السماوة تبرعت الوزارة بتعيين معلمين رسميين للمدرسة. ومنهم جاء كل هؤلاء الادباء الذين يعتز بهم العراق الآن. لم تفتح السماوة مدرسة وانما اصبحت هي مدرسة لكل العرب في الاعتماد على النفس.