دفاعا عن الجنون

TT

فجرت امرأتان انتحاريتان، وصفتا بالمختلتين عقلياً، سوقين شعبيين للطيور في العراق، فأوقعتا عشرات القتلى، مختلطة أشلاؤهم بأشلاء الطيور وريشها، فانطلقت حملة هجاء للقاعدة، التي لم تتورع عن استخدام المجانين عقليا، في تنفيذ عملياتها الوحشية. العملية، مثيرة للغثيان فعلا، وهي تنم عن انعدام الحواكم الأخلاقية لهذه الحرب المختلطة.

دوما كانت القاعدة وشبانها ونساؤها وخطباؤها، يوصفون بالجنون والاختلال من قبل الإعلام العربي وربما الغربي أيضا. الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن معنى الجنون الموصوف به هؤلاء.

في البداية، مفجرتا أسواق بغداد الشعبية، الأيام الماضية، هما مريضتان بشكل عضوي، إذا صحت التقارير الإخبارية عن كونهما «منغوليتين» وعليه فنحن هنا لا نتحدث عن جنون بقدر ما نتحدث عن مرض مشخص وعضوي. فلا موجب لاستخدام مفردة الجنون، بسبب ما تنطوي عليه الأخيرة من إشكالات وأسئلة تشير إلى تاريخ طويل من الاستخدام السياسي والاجتماعي لتهمة الجنون في سياق الاختلاف البحت عن السائد.

دعونا نسأل ـ رغم التحفظ الكبير على كلمة الجنون ـ من هو المجنون حقا؟ هل هو من فجر جسده او من تعامى عن هذا المفجر الانتحاري العدمي، ورباه، وغذاه، وحمى حدوده الفكرية من المس أو النقد، حتى إذا ما وقعت الواقعة، تبرأ منه وقال: إني بريء منك، إني أرى ما لا ترى!وبالعودة إلى الفكرة الأساسية هنا، فالجنون موضوع إشكالي كبير، فكيف نفرق بين الجنون والعبقرية، وكيف نبصر شعرتهما الشهيرة التي تقع بين حدودهما، وكيف نخلص التوصيف العلمي البحت للجنون من شائبة الاستخدام المسيس؟ أعني كيف نفصل بين اتهام المختلف، أي مختلف، بالجنون والشذوذ ـ وهما تهمتان مترادفتان في لغة الضبط الاجتماعي العام ـ وبين ترسيم وتحديد الجنون حقا، خاليا من أي توظيف سياسي واجتماعي؟

من أوائل من تنبهوا لفكرة إعادة الاعتبار للجنون، والإشارة إلى تاريخه المعقد مع التيار العام في المجتمع، الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي توفي 1984، وكتب كتابه المهم (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي)، وقد ترجمه سعيد بنكراد في كتاب صادر عن المركز الثقافي العربي. في هذا الكتاب يحدثنا فوكو: «عن العوالم الرمزية وكل الصور المخيالية التي أنتجتها المخيلة الإنسانية من أجل رسم حدود عالم غريب هو عالم الجنون والمجنون المليء بالصور والاستيهامات، والمليء أيضا بأشكال النبذ والإقصاء. فكل شيء يتحدد، ضمن هذه العوالم، من خلال التقابل الذي لا يُرى بين «حقيقة الجنون الموضوعية»، التي ستعرف طريقها عاجلا أو آجلا إلى مستشفى الأمراض العقلية، وبين العوالم التي تستثيرها شخصية المجنون. وهي عوالم تسللت إلى كافة أشكال التعبير الإنساني: الأدب والفن والفلسفة والأحكام الاجتماعية».

وأبرز صورة مثيرة ذكرها فوكو هي صورة سفينة المجانين. وفكرة ترحيل المجانين على سفينة وإخراجهم من المدينة، ومن ثم ترك هذه السفينة تبحر بهم في المجهول، حتى يجدوا عقولهم، هي فكرة حقيقية وليست من نسج الخيال، وكانت بدايتها في جمع البرصى وترحيلهم، حيث كان ينظر للبرص وللجذام باعتبارهما مرضا شيطانيا، وتطور الأمر إلى القبض على المجانين وجمعهم، تم ذلك في أكثر من مكان في أوروبا، وعلى سبيل المثال في فرانكفورت 1399 كان يكلف بعض البحارة بتخليص المدينة من أحمق يتجول عارياً في شوارعها. وفي السنوات الأولى من القرن الخامس عشر تم التخلص من أحمق مجرم بالطريقة نفسها، وأرسل إلى مايانس، وأحياناً كان البحارة يلقون بالحمقى خارج السفينة قبل نقطة الوصول».

ويرى فوكو هنا أن في ذلك معنى رمزيا مجازيا ينتصر للجنون بشكل ساخر، وهو الجنون هو الذي يقود سفينة العقل البشري ويرتاد لها المجهول، كما يلاحظ احمد محمد اسبر في مقاله في مجلة «مرافئ».

هذا الجنون الذي كان مدانا، وما زال، هو الذي احدث التحولات الكبرى في مسيرة الحضارة الإنسانية ولولاه لما خرجت لنا جواهر الشعر وخلاصات الفلسفة، وما ذاك إلا لأن المجنون، او العبقري، وفق التلطيف اللغوي الاجتماعي، يفكر بشكل «شاذ» وخارج السياق العام، لأنه لو فكر وفق السياق العام، لما أضاف جديدا، ولما أحدث تحولا! في دراسة مستفيضة وجميلة لهاشم صالح نشرها في مجلة (نزوى) العمانية الرصينة، طاف صالح بتاريخ ومفهوم الجنون وعلاقات صانعي العالم الحضاري والفكري والأدبي والفني كما نراه اليوم، بهذه التهمة، ومن أمتع النقاط التي توقف عندها التفريق بين المجنون والعبقري، فهل صحيح أن كل العباقرة مختلون نفسيا او مجانين؟ ونقل أن «أحدهم طرح على الكاتب الفرنسي اندريه موروا هذا السؤال: هل جميع الروائيين مجانين أو عصابيون؟ فأجاب: لا، الأصح أن نقول أنهم كانوا سيصيرون جميعهم عصابيين لولا أنهم أصبحوا روائيين.. فالعصاب يا سيدي، هو الذي يصنع الفنان، والفن هو الذي يشفيه».

ويشير صالح إلى خلاصة، ربما تستفز العقل المحافظ العاشق للسكون، خلاصة قالها عالم الطب النفسي (ايسكيورول) بأن الشخصيات الكبرى في التاريخ هي شخصيات «مرضية» ويضرب على ذلك مثلا لوثي وباسكال، وجان جاك روسو... رغم تفاوت حدة العصاب عندهم بين صاخب وهادئ خفي، لكن الصفة المشتركة في هؤلاء كلهم هي نفورهم من السائد، وحبهم للتغيير والاكتشاف والضرب في مجاهل العقل والنفس والروح والفن، ولذلك فهم عادة كائن غير اجتماعي، يميل إلى العزلة والوحدة والهامشية، وينفر من القيود الاجتماعية.

صحيح أن المسألة تصل أحيانا إلى حدود يصعب على العقل العام، قبوله، كما نقرأ ونسمع عن «وقاحة» بعض المختلفين في خرق الناموس الاجتماعي وعدم الاكتراث بـ«ضوابط» المجتمع والثقافة العامة، فهم أساسا إنما هربوا منها. وهنا تصبح قصة الفيلسوف الألماني شوبنهاور مثيرة للاهتمام، فكما ينقل صالح في دراسته كان هذا المفكر يتميز بطباع نفسية شكوكية غريبة، ومعها صفات عظمة تصل إلى حد اعتقاده أنه هو بالذات يسوع الناصري، ومالك الحقيقة الوحيد! ثم شعور مذل بالمهانة. ولكن قبل أن تسخروا من هذا الرجل طالعوا نتاجه الفلسفي وأثره في سياق الفلسفة الأوروبية، كما اثر أيضا «مجنون» آخر هو نيتشه. وفي تاريخنا العربي كان «المختلف» ولن أقول المجنون، دوما هو محط النقد والسخرية، وأحيانا، بل كثيرا، هدف الردع والتخويف والعقوبة، لأنه يهدد حالة السكون العام، والأمن «المستقر»... وإن لم يعاقب هذا المختلف بشكل سلطوي عنيف مثل السجن او القتل او النفي، فإنه يعاقب من العقل الاجتماعي العام بوصفه «مجذوما» عقليا، وبأنه مخيف للصحة النفسية والعقلية العامة، ويخلق في الذهن العام صورة بشعة مخيفة عنه، حتى يتحاشى الجمهور مجرد المرور باسمه او الاستشهاد به، في خطة عزل وتطويق مبرمجة لمحاصرة أي تأثيرات تصدر عن هذا المختلف «تكدر الامن العام» وهذه الجملة الأخيرة هي التي وسم بها الكاتب المصري صلاح عيسى كتابه اللذيذ عن الشاعر الشعبي المصري احمد فواد نجم «شاعر تكدير الأمن العام». هل يعني هذا الكلام الموافقة على كل شيء يصل إليه هؤلاء المجانين أو المختلفون؟ طبعا لا، ولكن يعني انه لولاهم ـ مع ما رافقهم من عمل ومراكمة الآخرين ـ لما حصلت الطفرات، والقفزات التي مر بها العقل الإنساني والثقافة والتاريخ.

الجنون ليس هو العته العقلي البحت، ولا هو البله البارد، بل هو اللحظة التي يتجرأ فيها الإنسان على تجاوز نفسه وقلب الصفحة، والتفكير من جديد، وبشكل جديد. أو لنقل: الفرق بين المجنون والعبقري هو القدرة على الشفاء من الجنون بالإنتاج والإبداع.

الآن، في عالمنا العربي، هل نحن في حالة جنون ام عبقرية ام في حالة عصية على التصنيف؟انظر إلى المشهد من العراق الذي خرج فيه رجل مثل اليماني الذي اثار القلق في البصرة والناصرية معتبرا نفسه مرسول المهدي المنتظر ومبشرا اتباعه بقرب ظهوره وأن النبي اليهودي ايليا سيكون من اتباعه، ومع هذا الرجل عشرات المثقفين والجامعيين كما يقول قائد شرطة البصرة. او انظر الى خطابات وشواغل الرأي العام العربي والإسلامي والتفكير بقرب قيام الساعة، وهيمنة احاديث السحر والشعوذة الى طبيعة الأسئلة المطروحة في البرامج الدينية والتي يشير معظمها الى حالة غياب وانفصال تام عن العصر، ثم انظر الى فضاء التفكير السياسي والاجتماعي العام الذي لم يغادر بعد الألف سنة الماضية...

انظر وتساءل: هل نحن بحاجة إلى «مجنون عاقل» يكسر الحلقة، ويتكلم ويفكر بشكل جديد؟ حتى ولو اتهمناه بالشذوذ بادئ الأمر... تساءل.