الأسوار القوية تصنع جيرانا طيبين!

TT

هو بيت شعرى جميل يحمل مقولة شهيرة للشاعر الأمريكي فروست «Good fences make good friends» للدقة هو لم يستخدم كلمة أسوار، بل سياج «fence» التي توحى بالحدود الفاصلة بين الحقول، ومن الطريف أن الكلمة العربية بموسيقاها تكاد تكون هي كلمة «Siege » سور أو حصار، ومنها مُحاصر «Besieged ».

والشعراء ليسوا مطالبين بتفسير كلماتهم باعتبارها شحنة موسيقية تسكن القلب مباشرة إلى أن تحين من العقل التفاتة إليها في ظرف ما، فيتذكرها ويبدأ على الفور في التفكير فيها، ليكتشف ما فيها من حكمة أو قاعدة فكرية، فجأة طفت على السطح في عقلي تلك الفكرة عن الأسوار القوية والجيران الطيبين وأنا أرى طلائع المنقبات لجماعة حماس الثورية في غزة وهن يحاولن اقتحام أسوار الحدود بين فلسطين ومصر، ثم يمر اليوم على خير بعد أن يتمكن الأمن المصري من صدهم، وفي اليوم التالي يصرح مسؤول عن منظمة حماسية نضالية بأنهم سيقتحمون الحدود المصرية حتى لو اضطروا إلى استخدام القوة، ولحكمة لم أدركها لم يرد عليه مسؤول مصري بتصريح مضاد يعلن فيه بأقوى الكلمات أن مصر تعترض على هذا التصريح الذي يتسم بانعدام الحياء وقلة التهذيب وأنها سترد على أي عنف بعنف أشد.

وفي فجر اليوم التالي تم تفجير سور الحدود الحديدي بين رفح الفلسطينية ورفح المصرية، ليس بواسطة التعاسة والجوع، ولكن بواسطة الديناميت، هكذا اندفع مئات الألوف من سكان غزة المنكوبة إلى رفح المصرية والعريش وبقية مدن شمال سيناء، بعد أن صدرت الأوامر للأمن المصري بعدم التعرض لهم تفاديا لحدوث مذبحة لا أحد يعرف المدى الذي يمكن أن تصل إليه، هكذا اكتفى الأمن المصري بإقامة أطواق أمنية جنوبا يمنعهم بها من التوغل داخل البلاد، وهو ما يسميه قاموس الحرب، الانسحاب لخطوط الدفاع الخلفية.

وبعد أن تمكن مئات الألوف من التجول بحرية داخل مدن الشمال المصرية مستمتعين بالحرية وبالقدرة على شراء السلع التي حرموا منها طويلا، تذكرت فجأة قوى الإسلام السياسي في المنطقة العربية أن غزة محاصرة وأن أهلها محاصرون، فأقيمت المؤتمرات وخرجت المظاهرات تأييدا لأهل غزة، الذين فجروا الحدود المصرية واعتدوا على جنود الأمن المركزي المصريين بالرصاص والحجارة في انتفاضة حجارة مصغرة، نقل على أثرها حوالي أربعين شرطيا وضابطا إلى المستشفيات، وفي دمشق قلب العروبة النابض، انعقد مؤتمر صدرت عنه بيانات قوية تدين كل أنواع التسويات السلامية، التي حدثت والتي في طريقها إلى الحدوث، كما طالبت بفك الحصار عن غزة فأثبتوا بذلك أنهم ضد حالة الحصار فقط وليسوا ضد الاحتلال، كانوا متحمسين إلى الدرجة التي أنستهم أن الجولان أيضا محتلة، ولكن ـ حمدا لله ـ هي ليست محاصرة.

في كل جهاز حكم توجد أجهزة متنافسة، يبدو أن جناح البلدوزرات داخل حكومة حماس شعر بنوبة غيرة قوية من جناح التفجيرات الذي أدى دوره على خير وجه، فخرج ببلدوزر هائل الحجم ليهدم أجزاء أخرى من السور تسمح بالخروج بالسيارات من رفح الفلسطينية إلى رفح المصرية والعريش، هكذا شاهد المصريون ومعهم العالم كله سيارات بلوحات فلسطينية وسيارات بدون لوحات تجوب شوارعهم، وهو المشهد الذي شاهده من قبل أهل عمان في الأردن قبل سبتمبر 1970.

وطلب الأخ خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إجراء حوار ـ بالمناسبة كمية الحوار في المشكلة الفلسطينية أكثر بكثير مما هو موجود في كل المسرحيات والأفلام والتمثيليات في طول التاريخ وعرضه ـ لا بد أنه اكتشف أن الحوار الذي تم في مكة وقبل ذلك في القاهرة لعشرات المرات لم يكن فعالا، كان ينقصه اقتحام الحدود المصرية.

فوجهت الحكومة المصرية الدعوة للسلطتين الفلسطينيتين المتصارعتين للحضور إلى القاهرة، من أجل إجراء الحوار المطلوب، ليس هناك ما يدعوني للشك في نتيجة الحوار المرتقب، هو فاشل بكل المقاييس حتى لو تم في شرم الشيخ بجوها الدافئ الكفيل بإنجاح أي حوار، لأن الحوار ينجح فقط في حال وجود أطراف عازمة على الفعل وقادرة عليه، وقادرة أيضا على كبت أهوائها من أجل مصلحة شعوبها، المنهج عند المتطرف الثوري هو: اشترك في الحوار.. وبعد أن تصل إلى اتفاق وقع عليه.. ثم قم من على مقعدك واطبع عدة قبلات حارة على خدود خصومك.. ثم اضرب ضربتك.. ثم اطلب الحوار.. وبذلك تكون قد كسبت أرضا من الحوار السابق.. استعد للحوار القادم.

وإذا كان فروست يقول ان الأسوار الجيدة تصنع جيرانا طيبين، فالفلاح المصري في حديثه عن الجيران أرسى قاعدة مهمة هي «مافيش بعد حرق الزرع جيرة»، غير أنه لم يكن هناك زرع على الحدود المصرية، كانت هناك أسوار وهي أسوار ترمز إلى سيادة مصر والمصريين، وتم حرق هذه الأسوار وتدميرها، هذا هو ما رآه كل مصري وهذا أيضا ما أشعره بالألم من الجيران الأشقاء، غير أن عددا كبيرا من النخب السياسية كان لها رأي مختلف وهو: نحن نقف مع غزة.

ولكن لا أحد منهم أوضح مع من هو في غزة، كما لوحظ أنه لا أحد فيهم كان يقف مع رفح والعريش المصريتين أو مع الثمانية والثلاثين شرطيا مصريا الذين أصابهم الأخوة الأشقاء المغيرون إصابات بالغة نقلوا على أثرها إلى المستشفيات، قبلها بأسبوع كان الأستاذ هيكل في سلسلة أحاديثه التي يعلّم فيها الناس مقتضيات السياسة والأمن القومي، كان يعلمنا أن: عدو عدوي هو صديقي.. وصديق عدوي هو عدوي.

ولما كنا أعداء لإسرائيل، وكانت حماس عدوة لإسرائيل إذن حكومة حماس صديقي أو صديقتي إن شئت الالتزام بقواعد اللغة، ولما كانت مدينتا رفح والعريش تابعتين لبلد عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل، لذلك هما ليستا صديقتين، أما حكاية الحدود المصرية فلا تنسوا أنها تابعة لبلد ليس صديقا لإسرائيل، كما أنه أيضا ليس عدوا لها بحكم اتفاقية السلام التي لا تعترف بها هذه النخب، وبذلك تكون مصر صديقة لإسرائيل، هل تريدون منا أن نتألم لما حدث لحدودها؟ هذا هو بالتأكيد منطق النخب المصرية الذي أوصلهم إلى الوقوف بجوار أكثر الاتجاهات فاشية في المنطقة لمجرد أنها ضد إسرائيل. هذه هي النتيجة الحتمية لسنوات طويلة من تزييف وعي الناس بخدمة سيدين، حمامات السلام وحدأة الحرب.

ولكن موقف الناس بشكل عام كان مختلفا لسبب بسيط، هو عجز الثقافة السائدة عن اختراق عقولهم والتعشيش فيها، كان ذلك واضحا في البرامج الحوارية من المكالمات التليفونية غير المصطنعة، ومن حرص مخرجي البرامج على قطع المكالمات قبل أن يتمكن المتكلم من الاسترسال، هم يعرفون شيئا واحدا هو أنه، مفيش بعد حرق الزرع جيرة. والله لقد حرقتم قلوبنا بعد أن أدميتم قلوب شعبكم وأفقدتموه حاضره ومستقبله لصالح مغامرين سياسيين يعملون لصالح قوى إقليمية عاجزة عن ممارسة السياسة.

كيف أقرأ ما حدث؟

الحرب الدائرة في المنطقة العربية الآن تدور رحاها بين الدولة من ناحية وبين الجماعات الدينية الثورية من جهة أخرى، هي حرب من أصعب أنواع الحروب فكل مواقع الدولة بسبب استقرارها في مكانها، مكشوفة وواضحة، بقوانينها المدنية ومؤسساتها، ومن بينها بالطبع الأجهزة الأمنية المدربة على تنفيذ القانون والأجهزة العسكرية المدربة على الحرب فقط، كل عناصر القوة هذه تتحول في نظر المتطرف الثوري إلى عناصر ضعف تدعم موقفه، لذلك هو يريد دائما محاصرة الدولة ودفعها لاتخاذ موقف عالي التكلفة، هو يعلم تمام العلم أن مصر ليست لديها قوات كافية لصد المغيرين الجيران الأصدقاء الذين حاربت من أجلهم طويلا، ويعرف أكثر من ذلك، يعرف أن مصر لن تقوم ـ في حال قدرتها ـ على قتل آلاف الفلسطينيين دفاعا عن حدودها، صانعة بذلك يناير أسود يلحق بزميله الأردني سبتمبر الأسود، هو يعلم أن الخيار الأردني ليس واردا في ردود فعل المصريين، غير أنه بالقطع يتمناه، أنت لا تعرف كيف يفكر المتطرف الثوري، غير أنه بالقطع يعرف كيف تفكر أنت ويجيد التسلل من ثغرات في طريقتك في التفكير المبني على الأعراف والقوانين والأخلاق، إلى غير ذلك من قيم أرساها الإنسان عبر آلاف السنين، هل تستطيع انت أن تلقي إنسانا حيا من الأدوار العليا في بناية شاهقة..؟ هو يفعل ذلك بسهولة بغير أن يطرف له جفن.. هل تستطيع أن تذبح شخصا أمام الكاميرات..؟ هو يستطيع.

هذه معركة واحدة في حرب طويلة وهي ليست منقطعة الصلة بما حدث في نهر البارد وما بعدها من أحداث في لبنان وفي غيرها من العواصم العربية. الهيمنة على الآخرين، كل الآخرين، هو ما يفكر فيه المتطرف الثوري، سياسيا كان أم عقيديا، وهو لن يتمكن من ذلك بغير القضاء على الدولة المعاصرة، وعلى الدولة أن تقوم بتوعية الناس بذلك، لا شك في أن عددا كبيرا من العناصر الانتحارية استطاعت التسلل إلى اماكن في مصر، وسيكون من الشاق والصعب الاعتماد على أجهزة الأمن وحدها في تتبعهم، هذه هي مسؤولية الناس في طول الوادي وعرضه، وهو ما يحتم سياسة مصارحة جديدة لا نقول فيها للقتلة.. أهلا يا أخي.. تعال يا شقيقي المقاوم صاحب الصواريخ الصفيح التي لا تقتل أحدا وتتسبب في قتل الناس وسجنها وضياعها.. تعال أفسد علي حياتي.. تعال دمر حدودي وانتهكها.. تعال نتحاور من أجل مستقبل شعبك ومن أجل مستقبل الأمة العربية.