فرنسا: هل هو النكوص عن مبدأ العلمانية؟

TT

الحديث عن عودة الأديان في الدول ذات التقليد العلماني هو اليوم أكثر من أي وقت مضى محّط كل النقاشات، وهو ما شغل الساحة الثقافية والسياسية الفرنسية هذه الأيام، بعد الخطابات الأخيرة للرئيس سركوزي في الفاتيكان والرياض.

الكثير اشتم منها نية مبيتة للمساس بأهم أركان الجمهورية، وهو مبدأ العلمانية أو فصل الدين عن الدولة، ورغم أن الرئيس الجديد عودنا منذ وصوله، على تصريحاته المثيرة للجدل، إلا أن ما قاله مؤخراً حول «علمانية إيجابية تكون فيها للأديان مساحة أكبر»، وكلامه «عن عودة الكاثوليكيين والجذور المسيحية لفرنسا» واستشهاده بتصريحات البابا بونوا السادس عشر جعلنا نستعجب فعلا، بل ونتساءل هل نحن أمام الخطابات السياسية لرئيس الدولة الأكثر علمانية في العالم، أم أمام المواعظ الدينية لقس...؟

ماذا يفهم من كلام سركوزي؟ أهي مناورة سياسية لإعادة رفع شعبيته المتدنية واستقطاب أصوات المحافظين والكاثوليك، ممن ساءهم سير الرجل الأول في الدولة منذ طلاقه وصدى إصلاحاته التي بدأت تجلب له الانتقاد؟ أم هو رجوع عن مبادئ قانون 1905 (الذي يكرّس فصل الدولة عن الكنيسة) ومشروع حقيقي لإضعاف التوجه العلماني في البلد الذي يعتبر أحسن نموذج له في العالم؟

الأكيد أن سركوزي يخلط الأوراق بين معتقداته الشخصية وما يصح أن يجهر به كرئيس دولة علمانية، وبات واضحا أنه ممن يرون أن العلمانية هي فكرة تنتمي إلى الماضي، ولكن أيضا ممن يؤمنون بأن الوقت أتى للتخلص من هذا الإرث الثقيل، وإفساح المجال أمام الأديان داخل الساحة العامة، وها هو يطالعنا بعد مفهوم «سياسته الحضارية» بمفهوم «العلمانية الإيجابية»، التي يقال إن مستشاريه المحافظي التوجه قد استوحوها من فكر نابليون. ولكن ماذا يخفي هذا الاهتمام المفاجئ «بالروحانيات» عند الرئيس الفرنسي، وقد بات معروفاً أن شخصيته بعيدة كل البعد عن التدين. هل هناك نية مبيتة لإحداث ثغرة في قانون 1905 بغية تمكين الكنيسة، وكل الجمعيات ذات الطابع الديني من توسيع نشاطها ونفوذها في المجتمع تماما كما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية بمفهومها عن «الديانة المدنية».

انتهاج مثل هذا الخط قد يعني سقوط العلمانية في آخر معاقلها، علماً بأن فرنسا هي لغاية اليوم أحسن نموذج للبلد الذي يطبق هذا التوجه بحذافيره وهي الوحيدة مع بلجيكا والبرتغال التي تخلو دساتيرها من أي اعتراف قانوني بالأديان، خلافاً للدول الأوروبية الأخرى التي وإن كانت تفصل الدين عن السياسة، إلا أنها تمنح هذا الاعتراف بدرجات متفاوتة، بل وتكرّس دور الكنيسة في المجتمع.

«العلمانية الإيجابية» على الطريقة السركوزية قد تعني أيضا أن الدولة ستعترف رسميا بدين الأغلبية، وفي هذه الحالة ماذا سيكون مصير أديان الأقليات، خاصة الإسلام، في بلد سيعطي بالضرورة الأولوية للمسيحية باعتبارها ديانة الأغلبية. صحيح أن الإسلام ظُلم كثيرا باسم احترام مبدأ العلمانية: فمنعت الفتيات من ارتداء الحجاب ولجأ المصلون إلى المآرب بدل المساجد، التي لم تبن لهم، وسُمح بنشر الرسوم المسيئة لعقيدتهم، لكني ممن يعتقدون بأن العلمانية من خلال قانون 1905 قد ضمنت في نفس الوقت نوعا من التوازن، على اعتبار أنها لا تعترف بأي من الأديان، لكنها في نفس الوقت تضمن حرية العبادة للجميع من دون تفرقة. وبالتالي فإن قانون 1905 يبدو وكأنه جاء لمنع هيمنة معتقد ديني على الآخر، حتى يعيش الجميع منصهرين بخصوصياتهم في بوتقة واحدة هي «المواطنة»، فهل ستكون «إعادة إحياء الجذور المسيحية لفرنسا»، كما دعا إليها سركوزي في روما مدعاة لأن تُهّمش عقيدة الأقليات.

انني أتساءل ما داعي إثارة هذه المواضيع الحساسة في مجتمع لا زال يبحث عن توازنه. عندما يتحدث رئيس الدولة «عن وجوب رجوع الكاثوليكيين إلى المجتمع الفرنسي»، وينّدد بمن «يريد قطع فرنسا عن جذورها المسيحية»، فهل يعمل حساب الثمانية مليون فرنسي ممن يدينون بالإسلام؟ ألن يساهم هذا في تفاقم مشكلة اندماج هؤلاء، وهي أصلاً معقدة ويزيد من إحساسهم بالتهميش والاضطهاد؟ وأخيراً ألا يكون هذا المشروع هو الحّل الذي اهتدى إليه سركوزي لمقاومة ظاهرة «أسلمة» فرنسا، هذا الهاجس الذي يؤرقه ويجعله يتصّدى بقوة لدخول تركيا المجموعة الأوروبية، ويجعله يغلق أبواب الهجرة في وجه الأفارقة والعرب، وينشئ وزارة لحماية الهوية الوطنية الفرنسية، وربما أذهب إلى أبعد من ذلك حين أتساءل ما إذا كان سركوزي لا يغذي آمالا خفية بوقف «صعود الإسلام»، الذي يُخفيه عن طريق الدفع بالتعابير المسيحية إلى البروز أكثر على واجهة الحياة الاجتماعية الفرنسية؟

وإن كانت أبعاد فكرة «العلمانية الإيجابية» غير واضحة بعد، إلا أن الأسئلة التي يثيرها مثل هذا المشروع هي فعلاً مفتوحة على كل الاحتمالات.

[email protected]