تأملات في فكرة الأمن القومي العربي

TT

بداية فإن هناك ملاحظة واجبة التوضيح، وهي أنني لست جزءا بأي معنى، من حملة داخل مصر أو خارجها على الأستاذ محمد حسنين هيكل؛ وعلى العكس من ذلك فإنني من هؤلاء الذين يكنون له ولفكره تقديرا كبيرا. وأكثر من ذلك فإنني كنت من هؤلاء الذين يعتقدون أن في عنق مصر دينا كبيرا للأستاذ عندما أقام صرحا عصريا ممثلا في مؤسسة الأهرام التي انتمي إليها، وعندما أسس لمدرسة في التفكير الإستراتيجي لم تكن متوافرة في الفكر العربي قبله، وقبل كل ذلك عندما كان منقذا لمصر في تلك الأيام الحالكة السواد من شهر يونيو 1967، عندما أقنع الرئيس جمال عبد الناصر بعدم تعيين السيد شمس بدران رئيسا للجمهورية.

ولكن، ومع كل ذلك التقدير، فإن أخذ فكر الأستاذ بالجدية اللازمة هو التقدير الحقيقي لما يقول من أفكار، ويعرض من حقائق، لما له من تأثير بالغ على أجيال كاملة من المصريين والعرب تأخذ ما يقول على أنه نوع من النصوص المقدسة. وفي الآونة الأخيرة بدأ الأستاذ هيكل سلسلة من الحلقات التلفزيونية على قناة الجزيرة تتعلق بالأمن القومي العربي، وما يهمني فيها في هذا المقال ليس التفاصيل التاريخية، وإنما المفاهيم والأسس التي يستند إليها لأنها ربما كانت من أخطر التهديدات للأمن القومي العربي إذا جاز استخدام هذا التعبير للإشارة إلى كل الدول العربية بلا استثناء، باعتبارها دولا وليس باعتبارها وحدة سياسية واحدة. وحتى نتخلص من الغموض أو التعقيد، فإن نقطة البداية هي الاتفاق مع الأستاذ هيكل، وفقا لما جاء في آخر حلقاته التلفزيونية، أنه لا يوجد أمن قومي من أي نوع إلا بعد استقلال الدول. ويرجع ذلك إلى أن حماية الوحدة السياسية من التهديدات الواقعة عليها داخلية أو خارجية لا تقع دون وجود سلطة سياسية مستقلة قادرة على تعبئة الموارد والجيوش إذا لزم الأمر. وهنا فإن تعبير الأمن القومي العربي» منذ البداية ليس له أي معنى حقيقي أو جماعي في الفكر السياسي، حيث لا تتوافر هذه السلطة للقيام بالتعبئة في مجمل العالم العربي كله. وإذا حدث ذلك من خلال اتفاقية جماعية أو تحالف عسكري مثل اتفاقية الدفاع العربي المشترك أو حلف الأطلنطي، فإننا نخرج في هذه الحالة من إطار الأمن القومي» إلى نوع آخر يعرف بالأمن الجماعي الذي لا يعطي لأحد سلطة لتعبئة الموارد داخل الدولة، إلا في إطار ما تسمح به الاتفاقية الموقعة والتي تحقق التزامات وتكاليف كل طرف وإرادة السلطة القائمة في تنفيذ هذه الالتزامات. وهنا أيضا يصير التحالف أو الاتفاق المشترك نوعا من الأدوات التي تستخدمها السلطة السياسية في الدولة، لكي تحقق أمنها القومي الخاص بالدرجة الأولى.

معنى ذلك أنه لا يوجد «أمن قومي» خارج الدولة، وهي وحدها التي يقع على عاتقها تحديد التهديدات التي تراها واقعة على بقائها واستمرارها وتحقيق أهدافها «القومية». وبهذا المعنى أيضا، فإنه لا يمكن لأي نوع من «الأمن القومي العربي» أن يفرض على الدولة العربية تهديدات لا تراها أو لا تضعها في أولوياتها أو ترى أن تكلفتها باهظة إلى الدرجة التي تجعلها تدمر إمكانيات الدولة. وفي الحقيقة فإن هذه الفكرة ذاتها هي التي شكلت تهديدا كبيرا لأمن الدولة العربية، لأنها تجاهلت أولا أولويات الدولة ذاتها في البقاء كوحدة سياسية، أو على الأقل بالنسبة لعدد من الدول العربية كانت بحكم تركيبتها العرقية والدينية والطائفية، تجعل بقاء الدولة من دون انقسام وتفتيت، هي المهمة الأمنية الأولى للدولة، ومن ثم فإن أولى واجباتها أن تقلل الضغوط الواقعة على النظام السياسي والاجتماعي داخلها. وبالنسبة لعدد من الدول العربية، مثل لبنان والسودان والعراق، فإن التداخل في قضية «الأمن القومى العربي» بين المجال العربي العام والمجال الخاص بالدولة، كان دوما واحدا من الأدوات التي استخدمتها طوائف وجماعات للتأثير على التوازن الدقيق والحرج داخل الدولة ذاتها، بحيث وضعتها تحت التهديد المستمر بالانقسام. وفي دولة مثل العراق والسودان ولبنان، فإن الفكرة العربية وتبعاتها الأمنية كانت واحدة من الأسباب التي قوت النزعات التقسيمية والانفصالية لجماعات وقوى رأت أن الانتماء للأمة العربية له تكاليف عالية للغاية. وكان أخطر ما في مفهوم الأمن القومي العربي، أنه خلق حقا طبيعيا لكل دولة عربية في التدخل في شؤون كل دولة عربية أخرى، وعندما غزا العراق الكويت، كان ذلك ترجمة لفكرة حماية الأمن القومي، حسب ما حددها صدام حسين ونظامه. ولكن مثل هذه الحالة ليست الممثلة لأشكال التدخل المختلفة التي يبدأ بعضها بالحملات الإعلامية، ويمتد إلى التدخل الدبلوماسي والسياسي، وأحيانا بأعمال المخابرات والتخريب والاغتيال وتشجيع المعارضة، وأحيانا مدها بالسلاح. وفي الأيام الأخيرة قدمت منظمة حماس وسيلة جديدة للتدخل في شؤون الدولة العربية الأخرى ـ مصر في هذه الحالة ـ من خلال الاجتياح السكاني. وبهذا المعنى فإن «الأمن القومي العربي» في تطبيقاته المختلفة أصبح هو مصدر التهديد للدولة، ولا يمكن التعرف على المعضلة الأمنية في لبنان من دون رصد تخوفها من سوريا التي ترى بيروت الساحة الأولى للأمن القومي العربي المهدد طوال الوقت. ولا يقل عن كل ذلك أهمية أن القائلين بالأمن القومي العربي، أي الأمن المحدد خارج نطاق الدولة، كانوا هم الذين وضعوا أشكال التهديد وأيضا سبل مواجهتها. وفي كلمته الأخيرة في قناة الجزيرة، فإن الأستاذ هيكل قال إن العرب تعاملوا مع الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على أنها الحل لمعضلاتهم الأمنية، ولكنها كانت هي المشكلة ومصدر التهديد، باعتبارها كانت الامبراطورية الصاعدة. وفي ذلك كان هناك بعض من الصحة، ولكن دولا مثل اليابان وتركيا ودول أوروبا الغربية وغيرها، وجدت أن التحالف والصداقة، ربما يكونان الأسلوب الأمثل للتعامل مع القضية الأمنية لامبراطورية فائرة. وحينما قامت حالات للصداقة بين واشنطن وعواصم عربية مثل الرياض، وبعدها القاهرة، فإنها لم تكن استثناء من السلوك العالمي. فمفهوم الأمن القومي ليس معزولا بحال عن توازن القوى، سواء كان مع قوة عظمى عالمية أو قوة إقليمية وبناء على حسابات هذا التوازن يتم البحث عن وسائل سد الاختلالات الواقعة فيه عن طريق زيادة القدرات من خلال التنمية، أو زيادتها عن طريق التحالف. وكانت المشكلة الكبرى للدولة العربية، أنها تعتقد بتوزانات زائفة للقوة، وهي لا تعطي بالا كبيرا لزيادة القدرات، كما أن قدرتها على إقامة التحالفات الإقليمية والعالمية كانت ضعيفة للغاية.

وفي الحقيقة فإن مفهوم الأمن القومي العربي خلق حالة زائفة من الاعتقاد بوجود قدرات لم تكن موجودة أو غير معبئة، وفي أحوال كثيرة خلق انطباعا زائفا لدى الخصوم والعالم بوجود قدرات هائلة، ولكنها في كثير من الأحيان ما لبثت أن انكشفت عند المواجهة. وفي حديث الأستاذ هيكل لقناة الجزيرة، فإن هناك مبالغة شديدة للموقع الجيوبولتيكي للدول العربية على المستوى العالمي، حتى يبدو وكأنه هو مركز الكون. ولكن الأرض كروية، ومركز الكون يوجد حيث توجد خيوط التجارة والاستثمار وحركة المعلومات والتجارة والتكنولوجيا والأساطيل الكبرى، وهذه توجد عبر المحيط الأطلنطي مع منافسة ضارية عبر المحيط الهادي وكلاهما بعيد عن المنطقة العربية. ولكن الانطباع، والإدراك، في زمن الإعلام وانتقال الصوت والصورة، جعل العرب في النهاية، وفي نظر الجماعة العالمية، كما لو كانوا نوعا من التحالف المستعد لإقلاق مضاجع الدنيا كلها، إن لم يكن بالحروب والأزمات، فمن خلال الهجمات الانتحارية. ومن لا يصدق فإن عليه المقارنة بين إدراك الدنيا كلها للأقاليم المختلفة، وإدراكها للمنطقة العربية؟!