باكستان الأخرى .. صورة لشاهد عيان

TT

جاءني أفراد الشرطة ليل ثلاثاء بارد ممطر ووقفوا أمام بيتي في إسلام آباد، وكانوا أربعة رجال. وكان بينهم ضابط كبير، فسلمني إنذارا يدعو الى ترحيلي حالا من باكستان. وسألت عما يعنيه ذلك، فأجابني الضابط «أنا هنا لأرافقك إلى المطار هذه الليلة».

ولم تقدم الوثيقة التي سلمني إياها أي تفسير لترحيلي، ولكنني شعرت في الحال بأن هناك صلة معينة بالرحلات والتقارير التي أعددتها لقصة إخبارية نشرت قبل يومين في مجلة «نيويورك تايمز»، حول جيل خطر جديد من طالبان في باكستان. وكنت قد قضيت أشهرا عدة أتجول في المناطق ذات المشاكل على امتداد الحدود مع أفغانستان، ولم يكن هناك تقييد على سفري، وقبل أقل من أسبوع كان الرئيس برويز مشرف قد جلس في غرفة مليئة بالصحافيين الأجانب في إسلام آباد وأبلغهم بأن بوسعهم الذهاب إلى أي مكان يرغبون في باكستان.

غير أن الحقيقة هي أن الصحافيين الأجانب يحظر عليهم الذهاب إلى ما يقرب من نصف البلاد، وفي معظم الحالات تقتصر تأشيرات دخولهم على ثلاث مدن هي إسلام آباد ولاهور وكراتشي. وفي محافظة بلوشستان التي تشكل 44 في المائة من باكستان تطلب السلطات موافقة إذا ما رغب المرء أن يسافر خارج كويتا، عاصمة المحافظة، ونادرا ما تمنح مثل هذه الموافقة. أما المناطق التي فيها مقاتلون مؤيدون لطالبان فيحظر التحرك فيها.

ولا ريب أن الصحافيين في باكستان، وعبر وسط وجنوب آسيا، يواجهون مخاطر كبرى، حيث فقد تسعة من صحافيي وسط وجنوب آسيا حياتهم أثناء عملهم العام الماضي، وكان بينهم خمسة باكستانيين.

وليس سرا أن المجتمعات المتزمتة غالبا ما تخلق شبابا غاضبين ومحبطين. وباكستان على سبيل المثال بلد رائع وفيه أناس رائعون، ولكن في كل يوم يجري غسل أدمغة عدد من الشباب من الرجال والنساء ودفعهم الى التفكير بأن الجواب الوحيد على نظام مشرف المدعوم أميركيا هو الإرهاب.

أخذتني رغبتي في استكشاف المناطق والأفكار غالبا إلى أماكن خطيرة أو معادية للغربيين. مع ذلك وجدت الناس كرماء جدا وليسوا مخيفين على الإطلاق. وتعلمت بعد فترة قصيرة كيفية تقييم أي مخاطر محتملة. كنت أسافر دائما مع صحافي أو صحافيين محليين يعرفون السكان واللغات والعادات أكثر مني. وبالإضافة إلى معرفة أي الطرق آمنة للسفر فيها ليلا، فإنهم على علم بأي من الأشخاص الذين ستجري معهم مقابلات يجلب انتباها غير مرغوب فيه من قبل دوائر الاستخبارات الباكستانية. وحينما كانوا ينصحونني كنت أستمع لهم.

يجلب الصحافيون الأجانب دائما انتباها متوترا لدوائر الاستخبارات. فقبل عام دخل بعض رجالهم إلى غرفة في فندق كانت تسكنها صحافية تعمل مراسلة لـ«نيويورك تايمز»، وقاموا بالاعتداء عليها جسديا. كذلك تسلم صحافي أجنبي آخر كان يسكن نفس الفندق تهديدا هاتفيا بأنه إذا لم يغادر منطقة كويتا مباشرة فإنه سيلاقى «العواقب» مثلما هو الحال مع دانييل بيرل مراسل صحيفة «وول ستريت جورنال» الذي تعرض للخطف على أيدي إسلاميين ثم قاموا بقطع رأسه في يناير 2002.

لكن ما يجعل باكستان ومنطقة بلوشستان عدوانيتين للصحافيين هو صعوبة تقييم التهديد. وإذا كانت أغلب الإصابات التي وقعت في السنة الماضية نجمت عن تفجيرات عشوائية وهجمات إرهابية، فإن الحوادث المميتة في السنوات الأسبق تظل غامضة. ففي ديسمبر 2005 قدم حياة الله خان، الصحافي من «شمال وزيرستان»، قصة مع صور أعطت دليلا على قيام أميركا بهجمات ضد طالبان و«القاعدة» داخل باكستان. بالتأكيد كانت الصور الفوتوغرافية إحراجا لحكومة مشرف التي ظلت تؤكد علنا أنه لن يسمح للجيش الأميركي القيام بأي عملية داخل باكستان.

وقبل أسابيع قليلة، كان خان قد كتب وصية قال فيها: «إذا تعرضت للاختطاف أو القتل فإن وكالات الاستخبارات الحكومية ستكون هي المسؤولة». وفي اليوم الذي نشرت فيه قصته والصور المرافقة لها أوقف عدد من المسلحين سيارته واختطفوه، وبعد ستة أشهر عثر على جثته مرمية في سوق شعبي بميرام شاه عاصمة شمال وزيرستان.

بعث حميد مير، أكثر الصحافيين الباكستانيين احتراما في مجالي التلفزيون والصحافة المكتوبة، إليّ برسالة الكترونية يقول فيها: «مشرف مقتنع بإقصاء الناس عن المشهد... لكنه لا يستطيع إبعادنا عن التاريخ». وجاء ذلك بعد إغلاق محطته التلفزيونية «جيو تي في» بعد فرض مشرف حالة الطوارئ. لكن المحطة عادت إلى البث منذ 21 يناير من دون برنامج مير.

*خدمة «واشنطن بوست»

ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»